17 نوفمبر 1958: “الضباط خدعوني” قالها عبد الله خليل البيه حسيراً ما عاش (2-2)
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
الفصل السادس من كتابي “. . . ومنصور خالد”
وقفنا أمس عند عبد الله خليل البيه، رئيس الوزراء، يحدث الشيخ علي عبد الرحمن، حليفه في الائتلاف الحاكم بين حزب الأمة والشعب الديمقراطي، في صباح 18 نوفمبر 1958 عن أن ما وقع بالأمس ليس انقلاباً وإنما هي حالة طوارئ دبرها كوزير للدفاع مع الجيش لإخراج البلاد من فوضى الشقاق. وسيعقبها ترتيب سياسي مدني لن يغير في التحالف في أوضاع الائتلاف القائم ومنازل الأحزاب فيه. وكان البيه وهو يبذل تلك التطمينات لحليقه قد عرف منذ مساء الانقلاب أن الضبط عرف لهم درباً آخر هو استيلاء هم أنفسهم على الحكم.
وحين تدخل السياسة الثكنات يتحول الضباط إلى ساسة من الدرك الأسفل الذي ينعونه على السياسيين: كذبة فجرة.
لم يكن البِيْه واثقاً كل الثقة في تلك التطمينات التي بثَّها للشيخ علي عبد الرحمن. فقد حدث مساء 16 نوفمبر ما أدخل الشك في نفسه من جهة ولاء ضباط الانقلاب له. فقد كان اتفق معهم لاجتماع ليلة 17 نوفمبر ليقف على سير ترتيبات ما بعد الانقلاب من تكوين لمجلس السيادة والوزراء. ولكنه حين حضر للقيادة لم يجد سوى الفريق عبود واللواء حسن بشير. وأبلغاه أن قادة الوحدات مشغولون بعملية الانقلاب مع وحداتهم ولا سبيل لاستدعائهم. “فعاد إلى منزله وهو يعلم أن تلك بداية الخدعة” كما قال أمين التوم. ولما زاره السيد الدرديري محمد أحمد، في ليلة الخديعة قال له بشيء من الخيبة والتشفي: “خلاص العساكر حيستلموها ومش حينزلو إلّا بالقوة”. مع ذلك تحامل البِيْه على نفسه في الصباح ومَنّى الشيخ على عبد الرحمن الأماني عن حركة الجيش التي لن تُغيِّر في الأمر شيئاً. وظل البِيْه، في قول أمين التوم، حسيراً ما عاش “يقص قصته بعد الأوان. ويقول إن الضباط خدعوه.”
التزم البِيْه العهد في حين حنثَ ضباطه العظام به. وقد حنثوا بالعهد في اجتماع ضم قادة الانقلاب يوم 18 نوفمبر. والروايات عن هذا الاجتماع كثيرة ومتناقضة. فقد قال الضباط مثل اللواء حسين على كرار، الذي ربما كان دينمو الانقلاب، إنهم جاءوا لذلك الاجتماع وفوجئوا بتغيُّر في الموقف حول تشكيل حكومة وطنية ومجلس سيادة مدني عسكري. فقد تلاشى هذا السناريو جملة واحدة. وجلس بينهم عبود يحدثهم عن تكوين مجلس أعلى للقوات المسلحة، ويقرأ من ورق جاهز فيه قائمة بأسماء المجلس العسكري والوزراء. واستنتج أحدهم أن عبود ربما استشار جماعة من الناس! (حمُدا في بَطُنا). وقال أحدهم إنه حتى الخطبة لانقلاب كانت جاهزة.
ولكن أحمد خير، المستشار القانوني الباكر للانقلابيين، وزير خارجيتهم، حدَّثنا عن اجتماع أكثر ديمقراطية مما نعتقد من حظوظ للديمقراطية في الجيش؛ أو مما أراد لنا الضباط أن نظن بها بكثرة حديثهم عن اتّباعهم الأوامر من أعلى إلى أسفل بغير تعقيب. قال أحمد خير إنه جاءه اللواء أحمد عبد الوهاب، الرجل الثاني في الانقلاب، وجلس بقربه وسأله عن مَنْ يقترح ليكون عضواً بمجلس السيادة. ثم زاد بأن سأله إن كان من السداد تشكيل مجلس من السيد الصديق المهدي ومحمد عثمان الميرغني والأزهري وممثل للجنوب. وردَّ أحمد خير إن مثل هذا الرأي يقع في باب السياسة لا التشريع الذي هو مجال اختصاصه. فشرب اللواء فنجان قهوته وخرج ولكنه عاد بعد عشر دقائق. ليقول لأحمد إن المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو الذي سيكون هرم السلطة الجديدة. وقفل اللواء الباب على عجل وخرج. وبعد نحو ستة شهور قال اللواء حسن بشير نصر، عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة، لأحمد إن الضباط صوَّتوا في الاجتماع فسقط سيناريو البِيْه وفاز سيناريو استيلاء الجيش على السلطان كله بتمثيل رمزي للمدنيين.
سيكون من دواعي البحث المفيد أن ننظر في بواعث وملابسات انقلاب السحر، وهو الجيش، على الساحر عبد الله خليل البِيْه. سيكون مفيداً لتقويم عقيدة التسليم والتسلم الرائجة أن نعرف لماذا تهرَّب الضباط من البِيْه ليلة الانقلاب؟ وكيف رموا بمشروعه لتدخل الجيش للطوارئ إلى سلة المهملات. فستُـلقي هذه الإجابات بعض الضوء فيما إن كان لهؤلاء الضباط، مكرٌاً أبعد شأواً من مكر البِيْه. وسنقف جلياً عما إذا كان قولهم إنهم إنما اتبعوا أمر سلطة عليا، هي البِيْه، حين قاموا بانقلابهم هو الحق أم أنه من قبيل ذَرّ الرماد في العيون. وستكون مثل هذه المعلومات، هي مدخلنا لنقرأ انقلاب 17 نوفمبر 1958 قراءة بصيرة. وسنعرف إن كان ما قام به الجيش، هو بالأصالة عن ضباطه أم بالوكالة عن البِيْه. وسيكون مثيراً أن نعرف المصادر المحلية والدولية، لشهية أولئك الضباط للحكم.