في الذكرى الرابعة لثورة ديسمبر.. استبعاد البرهان من القمة الأفريقية: خلفيات عن أمريكا والديمقراطية السودانية (2-2)
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
لم يكن الفريق عبد الفتاح، رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة السودانية، ضمن قادة أفريقيا الذين توافدوا إلى مؤتمر القمة الأمريكي الأفريقي في الأسبوع الماضي. فاستبعدته الإدارة الأمريكية، ضمن أربعة رؤساء أفارقة آخرين، عن المؤتمر لمجيئه الحكم بانقلاب عسكري مع حرص أمريكا الرسمية ألا تصف انقلابه إلا ب”الاستيلاء العسكري على الحكم”.
ويبدأ هذا المقال من واقعة استبعاد البرهان من القمة الأفريقية ليلقي الضوء على علاقة أمريكا التاريخية بمساعينا التي لم تنقطع لتكون الديمقراطية طريقتنا في الحكم. ولم يجد هذا المسعى اعتباراً من أمريكا من قبل. فما استرددنا الديمقراطية حتى اختارت أمريكا ما سميته “إدارة الديكتاتور” الذي عصف بها، أو كاد. ولهذا كان استبعادها للبرهان من مؤتمر قمتها الأخير حدثاً يستحق التوقف عنده. فإلى الجزء الثاني والأخير من المقال:
يرسل موقف أمريكا من انقلاب 25 أكتوبر، الذي حمل البرهان للحكم فردا، رسالة بليغة للديمقراطية السودانية. فسبق للرئيس بايدن ذكر حسن للثورة السودانية ودور النساء فيها في قمة للديمقراطية عقدها في واشنطون قبل عام في ديسمبر 2021. وحجب البرهان عن القمة الأفريقية، من جهة أخرى، مطابق لموقف الكونغرس الأمريكي الذي أجاز قبل أكثر من عامين قانون الانتقال الديمقراطي في السودان. وهو وثيقة نادرة لا أعرف أن سبق إليها في بلد آخر. فلم يترك القانون فرضاً ناقصاً في دعم ذلك التحول المدني في أعقاب انقلاب 25 أكتوبر. وفصّل في عقدة المسألة وهي استبعاد القوى النظامية من حقل الاقتصاد والعقوبات التي ستطال من يعترض سبيل الانتقال.
ولم تحسن أمريكا إدارة الديمقراطية في السودان كما لم تحسن إدارة الديكتاتورية فيه. فاسترد السودان الديمقراطية بثورة 1985. وسادها لا مفر ما يسود الديمقراطية من صراع كانت نقطة حرجه الحرب الاهلية في جنوب السودان. فاختار العقيد جون قرنق، قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان، من موقعه في اثيوبيا الاشتراكية أن يواصل الحرب. وقال إن الثورة لم تفعل سوى استبدال نميري بعسكريين آخرين هم أعضاء المجلس العسكري بقيادة عبد الرحمن سوار الدهب. وكان سوار الدهب انقلب على نميري بزعم الانحياز للشعب. وقال قرنق لقادة الثورة إنه لن يلبي دعوتهم للانضمام لهم حتى يبعدوا العسكريين من الحكم. وكان ذلك أمراً إدا. ولم يستجب لدعوات حلفائه في الثورة أن ينضم لركبهم فترجح كفتهم به. وقاطع الانتخابات. وصعّد عملياته العسكرية التي تستدعي تدخل بالجيش لا محالة. وهكذا أعاد قرنق مختاراً السياسة إلى الثكنات بعد أن كانت الثورة أطلقت سراحها منها.
واختارت أمريكا بالتدريج الاصطفاف مع الحركة الشعبية دون النظام الديمقراطي. فكان قرنق قد فقد مواقعه في أثيوبيا بعد الإطاحة بمنقستو في 1991. فلم يعد قرنق ملحاً على اشتراكيته الأولى مما ضمن له القبول في أمريكا بواسطة اللوبي المسيحي والأفريقي الأمريكي. وصار قرنق النجم الثاقب في سماء السياسة الامريكية بل والغربية حتى دعاه البوندستاق الألماني ليخاطبه وجها لوجه. وكانت تلك رسالة مخيبة لأمل الديمقراطيين السودانيين كافأت الديمقراطية الغربية فيها مقاطعاً للانتخابات في بلده ليخمل ذكر البرلمانية السودانية من غير خطأ جوهري فيها. ودارت الحرب سجالاً بين الحكومة والثوار ليخرج ضباط في الجيش في حلف مع الحركة الإسلامية بانقلاب 1989.
ونأتي أخيراً إلى إدارة الديكتاتورية لفترة نظام الإنقاذ (1989-2019). ونتجاوز هنا العقد الأول من نظامها بعد انقلاب 1989 الذي تربصت أمريكا فيه لإسقاطه. فسمته دولة راعية للإرهاب في 1993 وحاصرته بالعقوبات الاقتصادية منذ 1998. وعملت على عهد كلينتون للتحالف مع معارضة الإنقاذ وجيران السودان في إرتيريا وأثيوبيا للإطاحة به.
ونأتي إلى فترة إدارة ديكتاتورية الإنقاذ بواسطة السياسة الامريكية. وهي الفترة التي سماها الصحافي المميز خالد التجاني ب”الحليف من نوع خاص”. وأراد بذلك أن السودان حليف لأمريكا رخيص التكلفة. فكانت الإنقاذ خشيت أهوال ما بعد الحادي عشر من سبتمبر التي قد تطالها في حين أنهكت الحرب الاهلية اقتصادها. علاوة على رغبتها في الخروج من وضعية الدولة الراعية للإرهاب. فقبلت بأن تتعاون أمنياً مع أمريكا وأن تتصالح مع فكرة التفاوض مع الحركة الشعبية لأجل سلام مستدام مما يرضي أمريكا أيضاً. ولازم الإنقاذ مع ذلك سوء الحظ. فما انجزت للأمريكان مطلوباً مثل اتفاقية السلام الشامل مع الجنوبيين في 2005 حتى تفجرت مشكلة دارفور. ولم تحسن إدارتها. فيعود الأمريكيون غاضبين ليحرموها من الجزرة التي انتظرتها. وهكذا دواليك.
وبلغ بالأميركيين السقم من إصلاح النظام حتى تمنوا قيام ثورة ترمي به في مزبلة التاريخ. ففي محاضرة لبرنستون ليمان، المبعوث الأمريكي الخاص، في يوليو 2017 استنكر قمع الإنقاذ لمقاومة الشارع ورنا ليكون لها صوت مسموع في تكييف أوضاع البلاد ليتطابق مع ما تريده للسودان. وقامت الثورة على الإنقاذ بعد عام ونصف من نبوءة ليمان.
جاء في إعلان الرئيس بايدن الباكر الموجز بالقمة الأفريقية أنها ستنعقد لترسيخ الالتزام الأمريكي الأفريقي بالديمقراطية. وجاءت هذه العبارة مقدمة على غيرها. وتكشف لنا حالة السودان مع ذلك أنه بينما التزم السودان بالديمقراطية بتكلفة فادحة والإطاحة بالديكتاتورية مثنى وثلاث لم تلتزم أمريكا بسوى إدارة الديكتاتورية فيه. وربما الدرس من السودان بعد عقود من الديكتاتوريات والثورات للديمقراطية عليها أن لا حاجة للديمقراطية في أفريقيا برسول يبشر بها. فالتبشير بها عقيم لأنه، في عبارة أمريكية، وعظ للجوقة الموسيقية الكنسية. ربما احتاجت الديمقراطية في أفريقيا إلى صديق وما تزال. وبشارة الصداقة هذه لاحت في قانون الانتقال الديمقراطي الصادر من الكونغرس الأمريكي وتطبيقه باستبعاد البرهان من القمة الأفريقية.