مِحْنَةُ سَلْفاكِير !‎

0 66

.

الاثنين
تمرُّ بنا ، هذه الأيَّام ، الذِّكرى الخامسة بعد المائة لثورة 1917م التي مهَّدت الطريق ، في روسيا ، لتأسيس الاتِّحاد السُّوفييتي الذي صمد طوال ثمانين عاماً ، قبل أن ينهار ، انهياره المدوِّي ، بعد أن غيَّر وجه التَّاريخ. على أن نُذُر ذلك الانهيار  ما كادت تلوح على سطح تلك التَّجربة التَّاريخيَّة العظيمة ، مع خواتيم الألفيَّة الثَّانية ، ومطالع الثَّالثة ، حتَّى انبرى “محللو الغفلة”، وأكثرهم محض “مُنجِّمين”، يقدِّمون شروحاتهم وتفسيراتهم لما قد تكون أسباب الحدث. غير أن معظم تلك الشُّروحات والتَّفسيرات لم تتجاوز “تنجيم الودع”، و”ضربَ الرَّمل السِّياسي”، و”قراءة الفناجيل الفكريَّة”، حتَّى لقد صدر بعضها عن نوع مِن “نظريَّة المؤامرة” السَّاذجة ، دون أن يستشعر أصحابها ذرَّة خجل من ألقابهم العلميَّة الفخمة ، فقالوا إن ميخائيل غورباتشوف نفسه ، والذي كان آخر سكرتير عام للحزب الشِّيوعي الحاكم لسُدس الكرة الأرضيَّة ، آنذاك ، لم يكن سوى مجرَّد عميل مدفوع الأجر لوكالة المخابرات المركزيَّة الأمريكيَّة! .
ما عجز أولئك “العباقرة” السُّذَّج عن ادراكه ، وقت الانهيار ، وهم يحدِّقون ، بأعينهم الحولاء ، مِن فوق المنصَّات الأكاديميَّة الرَّهيبة في بلدان الغرب ، كان قد أدركه ، قبل سنوات طوال من ذلك ، شيوعيُّون أجانب صغار السِّن ، من محض معايشتهم اللصيقة لتلك التَّجربة ، في تجلِّياتها الاجتماعيَّة ، عبر عشرتهم اليوميَّة مع خليط مِن السُّوفييت في قاع المجتمع، رجالاً ونساءً ، كزملائهم الطُّلاب في شتَّى جامعات المدن الكبيرة ، ومعاهدها ، وفي داخليَّاتها ، ونزُلها الطُّلابيَّة المختلفة ، أو مِمَّن نشأت لهم ، بطبيعة الحال ، علائق مع شباب الأساتذة ، والموظَّفين ، والعمَّال ، أو مِن واقع تماسِّهم الحميم ، في شتَّى المناسبات ، مع العائلات الطَّيِّبة الكريمة لأولئك جميعاً ، في بيئاتها المدينيَّة ، أو الرِّيفيَّة البعيدة! لقد أمكن لأولئك الشِّيوعيِّين الشَّباب الأجانب ، مِن خلال تلك المعايشة ، أن يلامسوا ، باكراً ، شؤم الممارسات التي أفضت ، بعد سنوات من ذلك ، بتلك التَّجربة العظيمة إلى انهيارها المدوِّي! .
كان العنوان الرَّئيس لتلك الممارسات هو التَّشبُّث بالفكرة الخاطئة التي تحيل رسم سياسات المجتمع بكليَّاتها ،  شاملة سياسات المجتمع الاشتراكي ، إلى الحزب الشِّيوعي وحده! وهي الفكرة التي قاومها القائد الشِّيوعي الإيطالي أنطونيو غرامشي ، في “كرَّاسات السِّجن”، مؤكداً على أهمِّيَّة مساهمة “الناس” فرادى وجماعات في رسم تلك السِّياسات ، حتى لا يتحول القادة الشِّيوعيُّون إلى إداريِّين تهمُّهم، فقط ، ماكينة المجتمع، لا البشر الذين يتكوَّن منهم هذا المجتمع! تلك الفكرة الخاطئة كانت وراء استعلاء الكثير من الموظَّفين الحزبيِّين بأوضاعهم الإداريَّة والتَّنظيميَّة المميَّزة، والاستقواء بها على سائر المواطنين ، بل وعلى بقيَّة أعضاء الحزب القاعديِّين أنفسهم! ومِن ثمَّ كان الصُّعود إلى مثل تلك الوظائف ، والتَّرقِّي في مدارجها، رُخَصاً لم يكن يخفى ما توفِّره لأصحابها مِن سلطة ونفوذ ، كما ولم تكن تخفى، بالتَّالي ، ملاحظة القدر من التَّهافت الذي كان يبديه ضعاف النُّفوس، بالذَّات، للحصول عليها ، بأيِّ ثمن، بينما كان يترفَّع عنها الشُّرفاء وأهل النَّزاهة. وترتيباً على ذلك تضاعفت في المواقع القياديَّة، يوماً عن يوم ، أعداد النَّماذج الرَّديئة المتنفِّذة ،  من قمَّة الهرم إلى سفحه ، على حساب النَّماذج المخلصة المتجرِّدة ، مثلما تفاقمت، مع كرِّ السَّنوات ، مختلف الممارسات الفاسدة التي صارت تتعالى ضجَّة الشَّكوى منها أكثر فأكثر، وسط القواعد العريضة في كلِّ مواقع العمل ، والسَّكن، والمنظَّمات الفئويَّة للمبدعين ، والنِّساء ، وشباب “الكمسمول”، وغيرهم، تماماً كما على مستوى الأنشطة الاقتصاديَّة في المصانع، والكولخوزات “المزارع الجَّماعيَّة”، مِمَّا صار مادَّة للتَّندُّر والنِّكات السَّاخرة ، كوسيلة لمقاومتها ، ولا استثناء في ذلك للجَّامعات بوجه مخصوص .. وقِس على ذلك!.

من داخله، إذن،  لا من خارجه ، انهار البناء الضَّخم للحزب ، والدَّولة ، والمجتمع، في الاتِّحاد السُّوفييتي ، بسبب ما راكمت تلك التَّجربة التَّاريخيَّة الجَّريئة العظيمة من سلبيَّات ، عبر عشرات السِّنين ، وليس بسبب الانهزام أمام الرَّأسماليَّة، في المنافسة العالميَّة ، كما يذهب التَّفسير التَّبسيطي الخاطئ إلى ذلك! وفشلت ، كذلك ، تجربة الاصلاح التي افترعها القائد الشِّيوعي المخلص غورباتشوف تحت عنوان “البريسترويكا ـ إعادة البناء”، و”الغلاصنوست ــ الشَّفافيَّة”، لا لأنه كان عميلاً أمريكيَّاً ، كما تجترح الاستنتاجات السَّاذجة ، بل لأنَّ تلك التَّجربة جاءت متأخِّرة إلى أبعد حدٍّ ، وعصيَّة جدَّاً ، تماماً كاستخدام أصابع الكفِّ العارية لإيقاف صديدٍ نازفٍ من “دِّمِّل” محتقن تحت الإبط ما لبث أن انفجر عند أوَّل محاولة جادَّة لإفراغه وتنظيفه! .

الثُّلاثاء
ضمن رُوزنامة الأسبوع الماضي عبَّرتُ عن غضبي على تصريح كان أطلقه ، في وقت سابق ، عبد الرَّحيم دقلو ، قائد ثاني الدَّعم السَّريع ، يسئ فيه لبعض قادة الثَّورة بأنهم هم مَن حرَّضوا على فضِّ اعتصام القيادة العامَّة في الثَّالث من يونيو 2019م! وقلت إنني ظللت أنتظر، طوال تلك الفترة، نفياً ، أو اعتذاراً ، على الأقل ، مِن المذكور ، أو مِن مؤسَّسته. وعلى حين ظلَّ انتظاري بلا جدوى ، تلقَّيت ، اليوم ، رسالة من صديقي عبد المنعم الجَّاك، النَّاشط الحقوقي ، وأحد الذين استهدفهم التَّصريح المُسئ ، يقول فيها:
[سلامات وأشواق استاذي وصديقي العزيز، أتمنى أن تكون ودكتورة فايزة والأسرة بخير ، وعافية ، وصمود في وجه هجير بلادنا المنكوبة ، وانقلاباتها . بالطبع ، مع سفري وحضوري في البلاد ، لم انقطع عن الرُوزنامة وزادها الأسبوعي. وفي رُوزنامة هذا الأسبوع ، أستاذي ، طالعت الفقرة الخاصَّة بتصريحات عبدالرَّحيم دقلو حول مجزرة فضِّ الاعتصام ، واتِّهامي ضمن آخرين ، مع سخرية ما ، بالتَّوقيع علي ارتكابها. تلك التَّصريحات الدَّلقاوية ، وما تزامن معها وحولها ، تعود إلى شهر مايو من العام الماضي ، وكنت حينها ، مباشرة ، قد نشرت ردِّي عليها ، تجده أدناه. أنا موجود بالخرطوم هذه الايام، حيث رزقنا وإيمان خليفة بمولود ، مروان ، جاء الي الدُّنيا من القاهرة قبل نحو ثلاثة أشهر ، وقد عدنا الي الخرطوم مؤخَّراً . بالتَّأكيد سوف اتصل لترتيب زيارتكم خلال هذه الايَّام . مع محبتي وتقديري الذي تعلم . منعم.
توضيح من عبد المنعم الجَّاك
حول تصريحات عبد الرَّحيم دقلو
الخرطوم ــ صحيفة الشَّاهد؛

31 مايو 2021م
كتب الاستاذ عبدالمنعم الجاك ما يلي : ورد اسمي في خبر كذوب ، ضمن عدد من قادة أحزابنا السِّياسيَّة المشهود لهم/ن بالصُّمود في وجه فاشيَّة النِّظام البائد لثلاثة عقود، بأنني ضمن من صادق ووقَّع علي جريمة قتل ثوَّار ثورتنا البواسل. شهداء مجزرة اعتصام القيادة هم/ن من قدموا ارواحهم/ن قرباناً أتاح لي العودة للوطن بعد نحو عقدين من حياة المنافي ، وصحيفة نضالي خلالها وقبلها ليست مجالاً للمزايدة ، أو التَّذكير ، أو النَّسخ بهكذا إشاعة.
ذلك الخبر الكاذب هو امتداد لحزمة إشاعات واتِّهامات ظلَّت تطالني مؤخَّراً ، دوَّنت بلاغات فيها ، مصدرها وهدفها معلوم، وهو الثَّورة المضادَّة ، ومن يعمل علي شقِّ الصُّفوف من داخلنا ، فهدفها ليس شخصي بالتَّأكيد ، بل تعمل علي قتل وإجهاض كلِّ نضالات ، وآمال ، وأهداف ثورتنا ، مثلما قتلت شهدائنا.

الشُّكر لكلِّ من انزعج ، واتَّصل ، وكتب متضامناً جرَّاء ذلك الخبر الكذوب. ولمن أصابهم/ن طشاش البصر والبصيرة من رفاق الخندق والنِّضال في التَّعامل مع تلك الاشاعة ، ليذهب عنكم الأذي ، ويعافيكم، حتَّى نكمل سويَّا أهداف ثورتنا الظافرة. المجد والخلود لشهدائنا أجمعين ، ولشهداء وشهيدات ثورة ديسمبر المنتصرة].
تلك كانت رسالة عبد المنعم ، تعمَّدت نشرها بحذافيرها ، مساهمة منِّي في التَّرويج لردِّه على تصريحات عبد الرَّحيم دقلو رغم أنني في كلمتي الغاضبة ، بالأسبوع الماضي ، لم أطلب ، بل ولا يمكن أن أطلب مِمَّن استُهدِفوا بالاساءة أن يردُّوا ، وإنَّما طالبت المسئ ومؤسَّسته أن ينفيا ، أو يعتذرا، وما زلت أنتظر! .

الاربعاء
إنتبهوا ! ما كاد البرهان يَتعهَّد، قبل أيَّام قلائل ، بانسحاب قوَّاته المسلَّحة من ساحة السِّياسة ، ومعاونة السِّياسيِّين المدنيِّين في استعادة النِّظام الدِّيموقراطي ، حتَّى انقلب ، الآن ، يراكم شروطه للوفاء بتلك التَّعهُّدات (!) فتارة ينبغي “كي يترك ساحة السِّياسة للمدنيِّين”، أن يتمَّ ذلك بموجب “انتخابات حرَّة ونزيهة”، وطبعاً هو الذي سيحكم على هذه الانتخابات بـ “الحرِّيَّة والنَّزاهة”! وتارة أخرى ينبغي ، “كي يعاون المدنيِّين في استعادة النِّظام الدِّيموقراطي”، ألا يحاول أيُّ حزب أن يفرض غلبته على المشهد السِّياسي”، ما يعني أن مجرَّد “محاولة” أيِّ حزب الحصول على “الأغلبيَّة المطلقة” في الانتخابات ، ستكون “مبرِّراً” كافياً لتنصُّل البرهان وجنرالاته عن “تعهُّدهم بالمعاونة في استعادة النِّظام الدِّيموقراطي” .. فتأمَّل! .

الخميس
رغم أنَّني كثيراً ما تألَّمت ، إنسانيَّاً لمحن تعرَّض لها غيري ، إلا أنَّني لم يحدث أن تألَّمت قدر ألمي للمحنة التي تعرَّض لها ، قبل أيَّام ، سلفاكير ميارديت ، رئيس دولة جنوب السُّودان ، وهو واقفٌ وقفته المنضبطة ، منتصب القامة ، في قمَّة مجده ، يتلقَّى التَّحيَّة العسكريَّة ، ويحيِّي السَّلام الجُّمهوري لبلاده ، في مناسبة من مناسباتها الكبرى ، وسط ضيوفه الرَّسميِّين ، وبنات وأبناء شعبه ، وفي مقدِّمتهم ضباطه وجنوده الذين خاضوا، خلف قيادته مع الرَّاحل جون قرنق، معارك الحركة الشَّعبيَّة لتحرير السُّودان ، فإذا بالبول، الذي هو ، غالباً ، البول السُّكَّري ذو الحُرقة التي تصعب مقاومتها ، يباغته ، مسرسباً عبر بنطاله ، إلى حذائه ، ليسيل جدولاً رقراقاً مِن خلفه، والمصوِّر الرَّسمي متصلِّب كمن أصيب بشلل مفاجئ ، فلا هو يوقف التَّصوير ، ولا هو يحوِّل عدسته ، على الأقل ، إلى زاوية أخرى (!) وهكذا طار الفيديو ، وما زال يطير ، إلى كلِّ أنحاء العالم (!) ولمَّا أحسَّ الرَّئيس بالكارثة لم يملك سوى أن يطأطئ رأسه ينظر بين ساقيه، كسيف الخاطر ، ليتحقَّق مِمَّا إذا لم يكن الأمر محض كابوس يقظة! .
أوَّل ما طاف بذهني ، وأنا أتابع المشهد المأساوي ، هو أن أساليب الاستعمار الحديث في استهداف تدمير الزُّعماء الأفارقة الجُّدد الذين يتصدُّون لقيادة شعوبهم ظلت هي نفسها ، لا تتغيَّر جوهريَّاً ، وإن تغيَّرت أشكالها ، منذ بواكير اندلاع حركة التَّحرُّر الوطني في القارَّة ، حيث قد يتَّخذ هذا التَّدمير شكل الاغتيال المادِّي ، كالإعدام تحت طائلة القانون زوراً وبهتاناً ، أو تدبير الموت في حوادث تبدو قدريَّة للوهلة الأولى ، مثلما قد يتَّخذ التَّدمير شكل التَّحطيم المعنوي لشخصيَّاتهم في عيون شعوبهم وذلك إمَّا بإغراقهم ، عن طريق معاونيهم غالباً ، في حروب أهليَّة تسيل فيها دماء مواطنيهم ، وإمَّا باستغلال نقاط ضعفهم ، سواء تمثَّلت في إدمان الخمر ، أو حبِّ النِّساء ، أو جمع المال ، أو ما إلى ذلك ! وسرعان ما سطعت في ذاكرتي ، على سبيل المثال لا الحصر ، صور باتريس لومومبا ، وجومو كينياتا ، وموغابي ، وجون قرنق ، والكثيرين غيرهم.

على أنني لم استبعد ، أيضاً ، العامل الصحِّي ، ولذا سعيت لأخذ آراء بعض الأطباء المتخصِّصين الذين تشكَّكوا في أن سلفا ربَّما كان مريضاً ، وغير معتنى به جيِّداً من الدَّولة (!) وقد تكون حالته ناتجة عن التهابات في المسالك البوليَّة ، في المثانة ، أو الكلى ، أو قناة مجرى البول ، أو بسبب التهابات مزمنة في البروستاتا، أو من مضاعفات مرض السُّكَّري إن كان سلفا مصاباً به لا قدَّر الله؛ كما قد تكون ناتجة، ببساطة ، عن عادة حصر البول إراديَّاً واستمرار تأجيل الذِّهاب لُلتَّبوُّل ، مع الافراط في شرب السَّوائل! .
هكذا يحوم الأطباء، نظريِّاً ، حول قطاع واسع جدَّاً من الاحتمالات التي لا يمكن حسم أيّها أدَّى إلى مِحنة سلفا ، ما لم يتمَّ إخضاعه لفحوصات في غاية الدِّقَّة ، تمهيداً لأن توفَّر له الرِّعاية الطبيَّة التي يحتاجها. وهذا ، بالطبع ، هو واجب الدَّولة الشَّقيقة التي لا يزيد عمر ظهورها على المسرحين الأفريقي والدَّولي عن عقد من السَّنوات ، بعد كلِّ نضالات شعبها المريرة ، طويلة الأمد! .

الجُّمعة
يحيِّر الألباب ، حقَّاً ، أن يبيح رجل دين شرب الخمر، في حين يرفض ذلك لاعب كرة قدم! لكن يبدو أن ممارسات “الاسلام السِّياسي” تجعل مثل ذلك جائزاً ! .
الشَّاهد أن المرحوم الشَّيخ يوسف القرضاوي ، المصريَّ الأصل ، القطريَّ الاقامة ، والذي ظلَّ ، إلى حين وفاته ، رئيساً للاتِّحاد العالمي لـ “علماء المسلمين”، و”الأب الرُّوحي” لجماعة “الإخوان المسلمون”، فاجأ ، قبيل وفاته عن 96 عاماً ما يربو على المليار ونصــف المليار مسـلم يشـكلون 25% من سكان العالم ، بـ “فتوى” لا يمكن فهمها إلا مِن وجهة النَّظر السِّياسيَّة الدُّنيويَّة، على خلفيَّة الذَّرائعيَّة السُّلطويَّة لدى دهاقنة هذا “الاسلام السِّياسي”، حيث حلَّلت هذه الفتوى تناول “كميَّة قليلة” من الكحول ، رغم أن القاعدة الفقهيَّة تقرِّر أن “ما أسكر كثيره فقليله حرام”! .
دافع إمام “الاسلام السِّياسي” الأكبر هذا عن فتواه العجيبة تلك بأنها جاءت “إجابة على سؤال بشأن مشروب للطَّاقة موجود في السُّوق ، و”النَّاس” تريد معرفة حكم الشَّرع فيه” (!) والمقصود بكلمة “النَّاس” هنا ، بلا ريب ، من يعملون في استيراد وتجارة هذا المشروب (!) بمعنى أنه استُُورِد ، وأدخل إلى الدَّولة ، وأصبح متاحاً في محلات البيع ، ثمَّ أثير السُّؤال عن حكم الشَّرع فيه (!) ومضى الشَّيخ قائلاً : “لذلك عندما سُئلت وجدت نفسي (مجبراً) ــ قالها هكذا حرفيَّاً ــ على توضيح الصُّورة” (!) وما مِن شكٍّ في أنَّه أصبح من شأن أيَّة محاولة، بعد ذلك ، لـ “تحريم” هذا المشروب أن ترتِّب على هؤلاء المستوردين والتِّجار خسائر فادحة ، فكان لا بُدَّ من إنقاذ الوضع (!) مِن ثمَّ جاءت الفتوى المنقذة لتقول: “لا حرج في تناول قليل من الكحول الذي يتكوَّن نتيجة التَّخمُّر الطبيعي”! .
هاجمت الصَّحافة الفتوى ، كونها، على حدِّ تعبير افتتاحيَّة “الشَّرق” قد “أثارت بلبلة في مجالس الناس .. كونها ستفتح الباب للمشروبات التي تحتوي على نسب قليلة من الكحول، بينما النِّسبة لم تحدَّد ، لا في القرآن ولا في السُّنَّة .. وحتَّى بافتراض أن النِّسب الضَّئيلة من الكحول الناتج عن تخمُّر طبيعي لا تتسبَّب بالسُّكْر ، فإن التَّخمُّر الطبيعي مستمر ، ولن يتوقَّف عند نسبة معيَّنة”! .
على أن المفارقة الأخلاقيَّة غير المتوقَّعة ، إزاء هذه الفتوى ، حدثت خلال مباريات كأس العالم الحاليَّة بدولة قطر نفسها حيث تُُوِّج نجم المنتحب الفرنسي كيليان مبابي مرَّتين بكأس جائزة أفضل لاعب في مباراتي فريقه مع منتخبي أستراليا والدَّنمارك في دور المجموعات . لكن مبابي تعمَّد، في المناسبتين ، إظهار الجزء الخلفي من الكأس ، بدلاً من الأمامي ، لتفادي إشهار اسم وشعار شركة بدوايزر Budweiser المنتجة لنوع من البيرة بنفس الاسم ، قائلاً إنه فعل ذلك كي لا يروِّج لهذه الشَّركة ، كونه يُعتبر مثلاً أعلى لملايين الأطفال الفرنسيِّين ، فلا يريد أن يرتبط اسمه ، وصورته ، وحقوقه بالمشروبات الكحوليَّة! .
بالنَّتيجة ، وحسب لوائح المنافسة ، فرض الاتِّحاد الدَّولي لكرة القدم “فيفا” غرامة كبيرة على مبابي جرَّاء تصرُّفه ذاك. غير أن الاتِّحاد الفرنسي أعلن عن وقوفه المبدئي في صفِّه ، وتكفُّله بدفع الغرامة عنه ، بل وكل الغرامات المشابهة التي قد يتسبَّب فيها بعدم إظهار أسماء وشعارات مثل هذه الشركات الرَّاعية! .
الجدير بالذِّكر أن لدولة قطر دوراً لا يخفى في دعم حركات “الاسلام السِّياسي”، خصوصاً حركة “الأخوان المسلمون”، بينما تقف فرنسا ، تاريخيَّاً ، في صدارة الدُّول الغربيَّة التي اعتمدت “العلمانيَّة”، خصوصاً في نسختها “اللائكيَّة” الأكثر شراسة! .

السَّبت
في معرض ردِّه على نائبه حميدتي ، قائد الدَّعم السَّريع، الذي كان ، في وقت سابق ، قد وصف انقلاب 25 أكتوبر 2021م بأنه “خطأ”، رغم أنَّه كان قد أيَّده عند وقوعه ، جدَّد البرهان ، قائد الجَّيش ، خلال مقابلة له مع قناة الحدث ، قبل أيَّام ، إصراره ، للمرَّة الألف ، على أن هذا الانقلاب الذي خلَّف ، حتَّى الآن ، 122 شهيداً وشهيدة ، فضلاً عن آلاف الجَّرحى والمصابين ، والحبل على الجَّرَّار ، لم يكن “خطأ”، بل كان “تصحيحاً” اقتضته “الضَّرورة”! .
ما مِن شك في أن البرهان لم يقصد ، بتصريحه المشار إليه ، أن يتِّفق أو يتقاطع فكريَّاً، بأيَّة درجة ، مع مفهوم “الضَّرورة” الماركسي! رغم ذلك فإن استخدامه للمصطلح ، هنا ، بدلالة “تصحيح الخطأ”، مومئاً إلى “حريَّة الاختيار”، أتاح فرصة نادرة للتَّأكيد على سداد الاقتران بين مفهومي “الحريَّة” و”وعي الضَّرورة”، بلسان البرهان نفسه ، هذه المرَّة .. ورُبَّ رمية من غير رام! وفي بعض كتاباته أشار عشاري أحمد محمود إلى فكرة الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر ، المختزلة بعبارة “Language languishe”، والمترجمة في الانجليزيَّة إلى “Language languishes”، وفي العربيَّة “اللُّغةُ تُلَغْوِنُ”، وتعني أن للغة المحكيَّة لساناً خاصاً تتحدَّث به أصالة عن نفسها ، حتف أنف المتحدِّث ؛ فلكأنه يكفي أن يتحدَّث الشَّخص لتعلم منه أكثر مِمَّا حَسِب ، هو نفسه ، أنه قال !.
مهما يكن من شئ ، فإن الانقلاب ، وما ترتَّب عليه ، لم يقع ، لا مِن باب “الخطأ”، ولا مِن باب “وعي الضَّرورة”، بل مِن باب “الجريمة”، بركنيها المادِّي والمعنوي ، والتي أعاقت الثَّورة ، وكبَّدتها شهداء، وجرحى ، ومفقودين ، مِمَّا يستوجب المساءلة ، طال الزَّمن أم قصُر ، فلا يملك كائن من كان ، سودانيَّاً أو أجنبيَّاً ، أن يعفي مرتكبها ، فرداً كان أو جماعة ، من هذه المساءلة ، أو يعده ، في العلن أو في السِّر ، بتمكينه من الافلات من العقاب! .

الأحد
فاجأ المنتخب الألماني العالم، قبل بداية مباراته الأولى ، أمام اليابان ، في كأس العالم 2022م ، بملعب خليفة الدَّولي بقطر ، حين التقط لاعبوه الصُّورة التِّذكاريَّة التَّقليديَّة بشكل غير معتاد ، إذ أغلقوا أفواههم بأكفِّهم ، احتجاجاً على قرار “الفيفا” منع ارتداء قادة المنتخبات شارة قوس قزح التي ترمز إلى دعم المثليِّين ، وتحذير من يرتديها بأنه سوف يتلقَّى إنذاراً ! .
الاتِّحاد الألماني لكرة القدم نشر الصُّورة وعليها عبارة “بالشَّارة أو بدون الشَّارة .. نتمسَّك بموقفنا”! .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.