عن الانقلاب كخساسة سياسية: البشير في اعترافه مكره لا بطل
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
حين سمعت نافع على نافع ينكر صلته بانقلاب الإنقاذ أمام المحكمة المنعقدة لمحاكمة من كانوا وراءه في 1989 صح عندي أن الانقلاب خساسة. فلم يمر بنا حتى بين الإنقاذيين مثل نافع في شعواء صعلكته بالانقلاب. فأسف إسفافاً مسخ السياسة نفسها. وها هو أنكر “حطب” ما تصعلك علينا من فوق شوكته لثلاثة عقود طويلة وتشفتن. قال مرة البشاكل ما بقول عوقتني. وجاء أمام المحكمة معوقاً جريحاً كاذباً على الله والوطن.
ولم أمر بتعريف للخساسة في إصابة تعريف ود أم النصر النفيدي الذي قتل موسى ود جلي في يوم من أيام الكبابيش وبني جرار في أوائل القرن التاسع عشر. وكان موسى وصف ود أم النصر ب”الرخيص” مستنكراً أن يضربه دون الناس في مقتل. فرد عليه ود ام النصر بأن تلك نهايتك يا “نيا. . . جارتو”. والانقلاب فعل رخيص بالأمة التي أمنت لك.
كان اعتراف الرئيس المخلوع حسن أحمد البشير أمس الأول بقيامه بالانقلاب نقطة بيضاء نادرة في محكمة طالت لأربع سنوات لأن الدفاع حولها إلى مظاهرة سياسية ماراثونية. كان الدفاع، الذي تشكل من طاقم إنقاذي كئيب، يريد أن يثأر بالمظاهرة لنظام كبه الشعب نفاية أخرى من نفايات نظم الحكم فينا. كانت المحكمة عند تيم الدفاع مباراة للرد على الثورة أكثر من كونها ساحة للتقاضي على بينة. بل بلغ بهم جنون التظاهر حد أن هتف فريق الدفاع “سياسية، سياسية، سياسية” حين قضت المحكمة بإدانة البشير لاستلامه الرشوة دولارات جهاراً جهاراً. لم يزعهم عن هرجهم في محكمة للقانون وازع من مهنة أو عمر أو دماثة.
كان اعتراف الرئيس بقيامه بالانقلاب اضطراراً اعتراف مكره لا بطل كما حاول خط الحزب الفلولي تصويره. فلو لم يعترف البشير بالقيام بالانقلاب كان الانقلاب إما من عمل الروح القدس أو أنه أضغاث تتراي لنا، أو هي وهم واهمين.
لم أعرف من خطبة البشير إن كانت تهمته هي القيام بالانقلاب في حد ذاته أو أنها القيام بانقلاب لم يحقق الأغراض التي خرج لتحقيقها. ولا أعتقد أن المحكمة ذات اختصاص في الحكم على أداء نظام البشير لثلاثة عقود. ولا أعرف أن بالقانون مواداً تنعقد بها مثل هذه المحاكمة. فقد حكمت ثورة ديسمبر على أداء الإنقاذ وأحالت نظامها للاستيداع. أما إذا أراد البشير من الترويج لنظامه أن يكون أسباباً مخففة لجرم ارتكاب الانقلاب فلا غضاضة.
وددت لو ذكرني البشير دون صديق العمر عبد الباسط سبدرات فيمن جاؤوا لدائرة انقلابه من أقاليم إيدلوجية وحزبية غير الإخوان المسلمين ومن لف لفهم. فكنت لبيت دعوة الانقلاب لمؤتمر الحوار الوطني لأجل السلام (1989). وأعترف أنها كانت تجربة لي في الاشتباك مع الآخر في منعطف حرج بالوطن ما زلت حفياً بها. بل عرفت فيها من ذلك الأخر رجالاً احتفظ لهم ما أزال باحترام جم. عرفت مثلاً عثمان أحمد حسن، رئيس اللجنة السياسة للانقلاب، وهو حالة سياسية غراء. وقلت قبل أيام لبعضهم إنني زرته في بيته بعد إزاحته. وصلى بنا المغرب. فمسخ عليّ كل صلاة من وراء إمام إلا وراء الدنقلاوي العذب التقي الساعي بأحد البنوك حين سكنت جبرة مربع 5 في نحو 1980. ولي كتاب بعنوان “من يخاف الإنقاذ” في طريقه للنشر عن تلك التجربة في مؤتمر الحوار.
لم تكن حيثيات الأزمة السياسية التي أخذت بحناق الوطن التي برر البشير لانقلابه بها لتخفى على مثلي صحفياً ينشر عموداً يومياً بجريدة “الخرطوم”. ولم أجد في نفسي، حيال تلك الحيثيات المنذرة، ترف أن أكون مع انقلاب البشير أو ضده للوهلة الأولى. فقلت إنه انقلاب. وهو جريرة لأن خرق الدستور لا يغتفر. ولأنه صار حكومة الأمر الواقع دعوت أهله أن يتلاشوا به في نظام متدرج نحو الشرعية في مقالات بجريدة الإنقاذ الوطني في مناسبة مرور عام على الانقلاب نشرتها لاحقاً في كتابي” الإرهاق الخلاق: نحو استراتيجية شاملة للوفاق الوطني في السودان” (2006، ومن دار عزة 2015).
ومن جهة أخرى عقدت دعوتي للوفاق الوطني بالعميد البشير دون غيره. فتثبته في الولاية حين خلعه آخرون عنها لاعتقادهم أن الانقلاب هاجس شيطاني هجس به الترابي له. وقلت لمن فعل ذلك إنهم ربما لم يحسنوا كل الإحسان للبشير. ولم يخذلني البشير. فلم يمض عقد من الزمان من مقالي حتى تمكن من مفاصل الولاية كما هو معروف. وكنت أعرف أنه جاء في انقلاب من تدبير الإخوان المسلمين بالطبع. فجاء في زفة حزب لم يحسن للديمقراطية منذ 1964 كما لم يحسن الحكم منذ بيعته لجعفر نميري، الإمام التائب. واستغربت للبشير أمس في أقواله يسخر من الأحزاب ويستصغرها ليبرر انقلابه وقد جاء للحكم رئيساً في صحبة حزب من شرارها.
لم يرتفع البشير لمقام توقعه منه من وفدوا إليه من غير حزبه لدفن جنازة بحره. وهذا خلافاً لما روج له بالأمس أمام المحكمة. فكنت كتبت بعد عام من الانقلاب أنعيه لأهله. فقلت إنه ليس خافياً أن الإنقاذين يخططون لنظام مغلق باسم 30 يونيو، بل بدا أنهم انتهوا إليه. ومثله نظام بحاجة إلى إجراءات استثنائية لكي يتشبث بالبقاء شملت التحفظي والتعذيب والتطهير وتعيين اهل الولاء إلخ. وناشدت المعارضة (ولي رأي غير حسن فيها) أن تحذر من تحوله إلى “عصبة من عتاة الإيدلوجيين، ومحبي السلطة، والراغبين في الثراء بأي طريق تكبد الوطن أسفاً طويلا”.
نوه البشير بوجود صديقي سبدرات كما مر على رأس هيئة الدفاع عنه بتهمة الانقلاب وقد جاء للإنقاذ، من فرط وسعها وإحسانها، من بلاد يسارية بعيدة. ولو ذكرني أنا من جاءه من أقصى المدينة يسعى لعرف أنه أقام في 30 عاماً النظام الذي حذرت منه في 1990 “عصبة من عتاة الإيدلوجيين، محبي السلطة، والراغبين في الثراء بأي طريق تكبد الوطن أسفاً طويلا”.
وأواصل عن خساسة الانقلاب كما تجلت عند عبود وعبد الله خليل ونميري.