بعيدا عن مجانين الرايخ… ماذا يحدث في ألمانيا؟
كتب: د. عمرو حمزاوي
.
هذا شتاء ألماني صعب الذي يطرق الأبواب مع نهاية 2022، فالأزمات الداخلية تحاصر المستشار أولاف شولتز من كل جهة، وانهيار الرضاء الشعبي عن سياسات حكومته المكونة من حزبه الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر (يسار الوسط) والحزب الديمقراطي الحر (يمين الوسط) تثبته استطلاعات الرأي العام الأسبوعية. وخارجيا، تمر ألمانيا بفترة صعبة تشهد توترات مستمرة في العلاقة مع الحلفاء الأوروبيين، وعجز عن إيقاف الحرب الروسية على أوكرانيا التي تهدد أمن الألمان والأوروبيين، وتصاعد لحملات الدعاية السلبية عالميا بعد سلوك المنتخب الألماني لكرة القدم في دورة كأس العالم التي أقيمت في قطر 2022.
كنت على شيء من الدراية بتلك الأزمات والتوترات بفعل متابعتي للصحافة الألمانية. غير أنني لم أدرك تداعياتها الفعلية والكثيرة على حياة الناس إلا حين قدمت إلى برلين في زيارة أسرية، وأتيح لي التواصل مع بعض الأصدقاء من سكان المدينة.
قدمت إلى العاصمة الألمانية مستقلا القطار السريع من هولندا (حيث أدرت ورشة عمل وألقيت محاضرة حول الشرق الأوسط في جامعة ليدن). وكان يفترض أن تستغرق رحلتي 4 ساعات، غير أن أعطالا فنية متكررة على خط القطار ما إن بلغنا الأراضي الألمانية رتبت وصولي متأخرا بما يقرب من 4 ساعات، ودفعتني إلى التقدم بشكوى إلى إدارة السكك الحديدية والبحث على مواقع التواصل عن معلومات عن حال «دي دويتشه بان» التي كان يباهي بها الألمان العالم لانضباط مواعيدها وجودة خدماتها. فاكتشفت أن السكك الحديدية الألمانية تراجعت بشدة خلال السنوات الماضية بسبب غياب الاستثمارات الحكومية والخاصة اللازمة لتحديثها (يبلغ إجمالي العجز الاستثماري 60 مليار يورو)، إن نحو تعميم القطارات الكهربائية (لا تتجاوز نسبة تشغيل القطارات الكهربائية إلى إجمالي القطارات العاملة في السكك الحديدية الألمانية حد الـ 35 في المئة) أو تحسين الخطوط والشبكات للقضاء على الأعطال والتأخر المستمر (بلغ المتوسط اليومي لوقت الأعطال والتأخر اليومي في القطارات الألمانية ما يقرب من 3 ساعات، بينما لا يتجاوز المتوسط المقارن في سويسرا 3 دقائق وفي اليابان 36 ثانية). واكتشفت أيضا أن السكك الحديدية صارت مادة للسخرية والتندر مما آلت إليه أحوال البلد صاحب الاقتصاد الأوروبي الأكبر، وساحة لصراعات الأحزاب السياسية التي تعد جميعها بالتحديث حين تكون في صفوف المعارضة ولا تنفذ من وعودها شيئا حين تصل إلى مقاعد الحكم.
وكأن تأخر القطار في طريقي إلى برلين كان بمثابة مقدمة للأزمات الأخرى التي أحاطت بي في الأسبوع الألماني، فما إن وصلت إلى وجهتي إلا واتضح لي المدى الحقيقي لأزمة التدفئة والغاز والطاقة.
تواجه ألمانيا أزمات داخلية وتوترات خارجية متراكمة وأقل ما في ذلك أهمية هو خطة مجانين «مواطني الرايخ» لقلب نظام الحكم
في منازل الأهل والأصدقاء، وبسبب الخوف من فواتير الغاز والكهرباء القادمة، يحد الجميع من استهلاكه للطاقة بطريقتين رئيسيتين: 1) تدفئة وإنارة غرفة المعيشة كغرفة وحيدة مؤهلة لحياة الأسرة وترك بقية الغرف دونهما منعا لاستهلاك للطاقة، 2) تغيير عادات الملبس داخل المنازل لتواكب درجة البرودة خارجها بحيث تستخدم الملابس الشتوية الثقيلة أيضا في الداخل (أو كما قالت لي صديقة برلينية لديها من الأولاد 4 أنها أضحت تمنعهم من ارتداء الملابس الصيفية ورفع درجات التدفئة داخل المنزل منذ أن اشتد ساعد الشتاء وهوت الحرارة إلى الصفر المئوي أو دونه. وثمة تغير آخر في المنازل لاحظته على الفور، ألا وهو الامتناع المتعمد للجميع عن إنارة الدرج توفيرا للكهرباء وابتعاد من يملكون أدوات كهربائية كمالية (كمنشفات الملابس) عن تشغيلها.
وإذا كانت الأسر الألمانية تقتصد عن وعي فيما خص استهلاكها للغاز والكهرباء توفيرا للطاقة، فإن الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات تقتصد أيضا بتقليل التدفئة والإنارة في الأماكن العامة وفي وسائل المواصلات. يحدث ذلك بينما تتناقل الصحف ووسائل الإعلام أخبار تطورات المخزون الوطني من الغاز ومعدلات الاستهلاك المنتقص منه، فقد علمت على سبيل المثال كغريب عائد أن المخزون الوطني انخفض بنسبة 2 في المئة بسبب استهلاك المواطنين والمصالح الحكومية والاقتصادية والتجارية خلال الشهر الماضي وأن حكومة المستشار شولتز تعمل على التعويض السريع.
ثم تتواكب أزمة تدهور السكك الحديدية وأزمة التعامل مع نقص إمدادات الطاقة وتداعياتها على التدفئة والكهرباء، تتواكب مع عودة جائحة كورونا في موجة جديدة ترهق الناس وترفع معدلات الإشغال في وحدات العناية المركزة في المستشفيات الحكومية والخاصة. ويتواكب كل ذلك مع انهيار معدلات الرضاء الشعبي عن حكومة شولتز بأحزابها الاشتراكي الديمقراطي والخضر والديمقراطي الحر (ائتلاف إشارة المرور كما يسمونه في ألمانيا نظرا لألوان أحزابه، الأحمر للاشتراكيين والأخضر للخضر والأصفر للديمقراطيين الأحرار) بسبب صراعاتها البينية المتكررة والفجوة الواسعة بين برامجها الانتخابية التي وعدت الألمان بالتحديث التكنولوجي والطاقة المتجددة وجسر الهوة بين الأغنياء والفقراء والقضاء على فقر الأطفال وبين حقيقة سياساتها بعد انقضاء عام على مستشارية شولتز.
أما فيما خص علاقات ألمانيا الخارجية، فقد صار واضحا عجز حكومة شولتز عن الاضطلاع بالدور التقليدي لجمهورية برلين في صناعة التوافق بين روسيا وأوروبا وبين المصالح القارية الأوروبية والسياسات الأمريكية. بل أن التخلي الألماني عن الحياد فيما خص الصراعات العسكرية والابتعاد عن توريط السلاح الألماني في ساحات الحروب والقتال، ذلك التخلي الذي قاده الحزب الاشتراكي الديموقراطي صاحب إرث «سياسة الشرق» والانفتاح على روسيا وحزب الخضر الذي خرج من رحم حركة السلام الألمانية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، أضحى الملمح الأهم لسياسة ألمانيا الخارجية وللخطاب العلني لوزيرة الخارجية، أنالينا بيربيك، التي لا تمل من إلقاء «محاضرات في القيم» على مسامع الأوروبيين والعالم خارج الغرب ولم يُسجَل لها إلى اليوم نجاح دبلوماسي واحد.
تخلت ألمانيا عن حيادها العسكري، فافتقدت القدرة على الوساطة لحل الخلاف والصراع مع روسيا. عسكرت السياسة الخارجية الألمانية وأضحت وزيرة الخارجية تحاضر عن القيم، فانفض العالم بعيدا عن ألمانيا التي كان اعتدالها ومرونتها وسياسات اليد الهادئة لحكوماتها مصدر قوتها وفاعليتها في أوروبا وخارجها.
ولأن ائتلاف «إشارة المرور» يستبدل تصدير السلاح والمحاضرات في القيم بالحياد العسكري والاعتدال والمرونة، ذهب المنتخب الألماني لكرة القدم إلى قطر لتسجيل الموافق القيمية والتدخل، وبتشجيع من السياسة، بابتذال في طرق حياة آخرين والإضرار بهم وليس للعب الكرة. وانتهى به الحال من ثم إلى خسارة تعاطف كثيرين، وخسارة مبارياته أيضا.
تواجه ألمانيا أزمات داخلية وتوترات خارجية متراكمة، وأقل ما في ذلك أهمية هو خطة مجانين «مواطني الرايخ» لقلب نظام الحكم.