أما لمحكمة انقلابي يونيو 1989 من آخر: وقانونيو الثورة في شغل عنها كأنها تحدث في أرخبيل (2-2)

0 47
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
أعادت أقوال الأخيرة في المحكمة عن الانقلاب كثيراً من الناس إلى الالتفات للمحكمة، ولو لحين، بعد انصراف طويل عنها. فقد اسقم طول انعقادها، أو تطاوله، الناس في وقت تزاحمت عليهم أزمات سياسية ومعيشية وصحية أخذت بخناق بعضها أزهدتهم عن متابعة جلساتها. فذبلت حتى تلك الوقفات من أنصار النظام القديم التي كانت تجتمع أمام المحكمة للتضامن مع رموزهم المعتقلة لدى وصولها قاعة المحكمة، أو تلاشت.
ومع ذلك تتحمل المهنة القانونية في الاتهام والدفاع معاً خمول ذكر هذه المحكمة المهمة بين الناس. فلم يتصالح الدفاع بعد مع الطبيعة القضائية للمحكمة بعد أن دمغها بأنها سياسية محض من تدبير نظام، هو الحكومة الانتقالية بعد الثورة، اغتصب السلطة. فانتهي إلى شغب صبياني أطال المحكمة فأثقل على القضاة والمتهمين معاً
وسنرى في هذه الحلقة الأخيرة كيف أزهد المحامون من صف الثورة الناس في المحاكمة باعتزالهم التعليق على مسائلها الإجرائية والموضوعية. وبدا من انشغالهم بغيرها ومغايظاتهم وكأن المحكمة تنعقد في بلد آخر مجهول. إلى بقية المقال
أما ما أزهد الناس حقاً في سير محاكمة انقلابي 1989 فهو إضراب القانونيين من صف الثورة عن تتبع جلساتها والتعليق على ما يدور فيه إجرائياً وموضوعياً. فسنحت بهذه المحاكمة فرصة نادرة ليشهد الجيل من السودانيين مساءلة قانونية علنية لحكام خرقوا الدستور، وقضوا على نظام برلماني استعاده الشعب بثورة في 1985 على ديكتاتورية نميري التي دامت 16 عاماً. والمساءلة عقدة الديمقراطية كما لا يخفى.
كثيراً ما نسبت الصفوة تَفَلت الديمقراطية بين أيدينا ثلاث مرات منذ استقلالنا في 1965 إلى خلونا من الثقافة الديمقراطية. وهذا قول مرسل. فلم يولد أي شعب في بلد ديمقراطي في يومنا بمعلقة الديمقراطية في فمه. فثقافة الديمقراطية ككل ثقافة تترعرع في الناس. فهي ثمرة معارف وخبرات في محاربة نظم الاستبداد. ومن هذه الخبرات إنهاء نظام ديكتاتوري كحالنا وتحويل الخبرة من محاكمة رموزه إلى ثقافة تنسرب إلى عقول الناس وأفئدتهم. وهي الثقافة التي تطعمهم بالمضاد الحيوي دون نزوات محبي السلطة بليل.
ومع تحول هيئة لدفاع بالقضية إلى تظاهرة سياسة كما رأينا إلا أنها أثارت مع ذلك مسائل استحقت أن يقف عندها قانونيو الثورة للإدلاء برأي فيها يغذي الثقافة الديمقراطية في وسط الناس. فأكبر حجج الدفاع عن تسيس المحاكمة هي أن النائب العام الذي كون لجنة التحقيق كان قد تقدم قبل توليه النيابة العامة ببلاغ مع آخرين ضد موكليهم بنفس تهمة الانقلاب. وقالوا إن هذا يقدح في عدالة القضية. كما اعترض الدفاع على قاض بالمحكمة كان مساهماً في الثورة على نظامهم. ومن جهة موضوعية حاجوا بأن التهمة بالانقلاب سقطت بالتقادم بعد مرور ثلاثين عاماً عليها. وزادوا بأن مما يطعن في التهمة أيضاً أن سائر الأحزاب السياسة شاركت بصورة أو أخرى لاحقاً في نظامهم الانقلابي. فلو كان الانقلاب جريمة فهو، باشتراك هذه الأحزاب فيه، جريمة مستمرة.
وحجة الجريمة المستمرة طالما شارك فيها من لم يرتكبها أول مرة قريبة من حجة لحسن الترابي في 1965. ففي معرض إدانته لانقلابي 1958 مع رفضه محاكمته قال إنه، متى أردنا تلك المحاكمة، اضطررنا لمحاكمة الجيش كله وأحزاب كبيرة أيدت الانقلاب. وهذه الحجة التي تغرق الخاص في العام مما نسميه في السودان “إضاعة الأثر في الماء”.
وليس في مطاعن الدفاع أعلاه مما يصعب الرد عليه بالطبع. فتصادف مثلاً أن ذاع مفهوم “التنحي” (recuse) في نفس وقت الذي كان دفاع انقلابي 89 يثير فيه حزازة النائب العام السياسي على موكليه. ففي تلك الأيام كان جيف سيشن، المدعي العام الأمريكي، قد امتنع عن الاشراف على التحقيق في علاقة حملة الرئيس ترمب بالروس لأنه كان اتصل بهم هو نفسه خلال الحملة الانتخابية.
ويذكر جيل الستينات كيف افتتن بمصطلح القانون في محاكمة مذاعة لانقلابيين فشلوا في انقلابهم عام 1959. فسمع الجيل لأول مرة ب “البينة الظرفية” وتعريفها مثلاً. كما عرفوا عن دهاقنة القانون مثل الهندي راتنلال الذي كان اسمه يدور على ألسنة الحقوقيين في المحكمة. وكان ذلك سعة في العلم.
هذه محاكمة طالت واستطالت. وكبر في سنواتها الأربع متهمون كبراً لحقتهم به أدواء الشيخوخة حتى لتنقبض النفس لرؤيتهم على وهن ظاهر في الترتيبات الخاصة التي وفرتها المحكمة لمواصلة محاكمتهم. وطالت المحكمة طولاً اسقم حتى أسر المتهمين من المطالبة بتسريعها. وكانت انتظرت أن تنطوي صفحتها على أي حال لتعرف رأسها من قعرها. وكان لجائحة الكرونا بالطبع دور في تطويل انعقاد المحكمة حتى طلب الدفاع مرة بتأجيل انعقادها لشهرين كاملين تحرزاً.
ولكن تبقى مسؤولية هيئة الدفاع عن هذا التطويل هي الأعظم. فالبادي من أداء أفرادها في المحكمة أنهم، بعد تفريغهم لقضية موكليهم من موضوعها بصرفها كدسيسة سياسية، تواثقوا على الانتصار لموكليهم من رموز حركتهم السياسة بإنهاك المحكمة وجرجرتها والتهوين من شأنها. وربما غلبت عليهم السياسة حتى نسوا أن أكثر موكليهم في شرخ الشيخوخة وقد لا يحتملون تكتيكاتهم لإنهاك المحكمة صعوداً لأكثر من هذا. فالدفاع نفسه تقدم في جلسة ما بطلب شطب القضية ضد أحد موكليهم لأنه لم يعد صالحاً للمثول أمام المحكمة.
لابد لهيئة الدفاع من سكة لتسريع هذه المحاكمة التي طالت لصالح موكليهم كما ينبغي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.