العدالة بالسلك البراني أو التحتاني

0 70

كتب: د. الوليد آدم مادبو

.

ثمة تعارض واضح بين صلاحيات رئيس الوزراء القادم وصلاحيات لجنة ازالة التمكين المرتقبة حسب ما قرأناه في التوصيات الأخيرة. إن النائب العام في الحالة المثلى يتحرك بتفويض من رئيس الجهاز التنفيذي -في هذه الحالة رئيس الوزراء- لتقديم المتهمين بالفساد للقضاء بعد أن يكون قد حصل على حيثيات مناسبة وملزمة للجهازين العدلي والشرطي اللذان يتوليان مهمة القبض على المتهمين ومن ثم التحقيق معهم. إذ ليس من المعقول أن تنشأ شرطة ونيابة خاصة بلجنة إزالة التمكين. من ذا الذي يملك صلاحية الاقالة مثلاً لموظف لم تثبت عليه عدم كفاءة مهنية أو عدم كفاءة أخلاقية، هل هي قحت أم رئيس الوزراء الموقر؟ هل من العدل أن تقيل شخص لمجرد الاشتباه في انتمائه الايديولوجي؟

قلنا مراراً إن اختيار طاقم حكم وطني ونزيه يغني عن هكذا اجتهادات لا تقود إلا إلى تضارب يشل آلية الدولة ويذهب ريحها ممّا قد يكرر تجربة الفشل السابقة ويكون مدعاة لتقويض الحكم في البلاد. ما هو دور رئيس الوزراء اذا كانت قحت (المجلس المركزي) ستعد له البرامج وتحدد له مسارات الحكم؟ بل ماهي أهليتهم؟ أي شخص هذا الذي سيقبل تلقي توجيهات من أناس اقل ما يقال عنهم أنهم غير مختصين، اناس يفتقرون إلى خلفية علمية او خبرة مهنية في اي مجال؟

فيما تركز قحت (المجلس المركزي) على اعدائها السياسيين فإن جل اللصوص يقعون خارج دائرة التصنيف الأيديولوجي، بمعنى أخر هناك لصوص يفوقون صغار الكيزان براعةً في نهب البنوك، تدمير المؤسسات العامة، التجنيب، غسيل الأموال، التلاعب بالمال العام، الاستفادة من الامتيازات غير القانونية، تزوير الارادة الوطنية وغيرها من الموبقات التي اوصلت البلاد إلى هذا الدرك الاسفل في الفساد. لماذا صمتت لجنة إزالة التمكين عن مافيا الدقيق، مثلاً؟ بل لماذا صمتوا عن الاموال التي ظلت تتلقاها الطائفية من جهاز الأمن؟ أكاد أجزم أن العشرين الأوائل في “قائمة المئة لص المحترمين” ليس لهم اي انتماء تنظيمي للاسلاميين أو الاخوان المسلمين، هم مجرد انتهازيين او بالاحرى مستهبلين.

التجارب الافريقية والتجربة الليبية خاصة تشير إلى أن الاموال المنهوبة والتي اودعها الطغاة في البنوك الغربية لا تسترد بل إن الحسابات تصفّر حال التأكد من موت الطاغية. يجب أن ننشئ مفوضية فساد تعمل على سد الثغرات في النظم الادارية، ضبط الدورة المستندية، تحديث وتطوير النظم المؤسسية، الحوكمة الالكترونية، تأهيل الجهاز القضائي والعدلي، وتقديم رؤية تنموية. لا اقول عفا الله عمّا سلف ولكن اتمنى أن نترك مسألة الملاحقة للجهات المختصة وأن نصرف جل جهدنا في التخطيط للمستقبل فما سُرِق وما يُسْرَق الان لا يعدو كونه مجرد شِفة في قمة الجبل. البلد لديها امكانيات هائلة وثروات واعدة، نحتاج فقط للارادة والتصميم.

لقد كانت المؤتمرات الصحفية التي تقيمها لجنة إزالة التمكين يوم الخميس عبارة عن صخب سياسي وملهاة إعلامية هيئت اعداء الثورة وحفزتهم للانقضاض على الثورة في وقت لم تكن فيه المؤسسات والأجهزة قد حازت الكفاءة اللازمة والارادة الملزمة لخوض معركة ضد أعداء الشعب. إن غياب النضج السياسي وعدم التأني قد ضرب الثورة في مقتل، وها هم اللصوص قد هربوا بأموالهم بل عادوا إلى أوكارهم بعد أن اطمأنوا للفِرية واستأنسوا لفكرة “تصحيح المسار”!

مخطئ من يظن أن الفساد رهين فقط بالرهط الكيزاني، لقد أصبح الفساد ديدناً في حياة السياسيين وفي مسلك المواطنين عامة. لابد إذن من النظر في الجذور السوسيولوجية والفكرية الانحرافية للمفسدين؟ كيف تم إفسادنا كشعب بهذه الطريقة المريعة؟ كيف اصبح الفساد متقبل اجتماعيا بل محتفىً به في هذه الفترة الوجيزة؟ كيف يمارس رجل الدولة التجارة في ذات الوقت لتحمله مهام التكليف؟ كيف يقبل عضو مجلس سيادي العمل في مجلس إدارة لشركة تجارية؟ كيف يتسنى لرقيب أول بناء بيت في كافوري؟ من ماذا يعتاش معظم السياسيين وهم عاطلين؟ كيف تقبل وزيرة عطية دولارية من دولة خليجية، بل كيف يقبل طاقم سيادي مرتباته الشهرية من دولة أجنبية؟ كيف يتواصل وزير مع دولة الكيان الصهيوني، مثلاً، دون أن يخطر رئيس الجهاز التنفيذي أم أن الأخير كان يستعبط على العامة عندما أنكر علمه بالحادثة؟ بالله عليكم، ما هو الفرق بين التواصل والتخابر؟

ختاماً، كنت وما زلت مع “الشرعية الثورية” التي تشمل كافة الاجراءات (الاعدام، الاعتقال، المصادرة، إلى أخره) التي تقطع دابر المفسدين وتقتص للشعب من المجرمين من منطلق (ولكم في القصاص حياة يا أولي الالباب)، لكنني ضد “العدالة الانتقائية” التي تعطي فئة حق تصنيف المجرمين على اسس طائفية أو ايديولوجية. لا يمكن لقحت أن تستثني ذويها مثلاً من المسائلة وأن تعمل سيف البطش في الأخرين منذ الوهلة الأولى، كما لا يمكن لادعياء “تصحيح المسار” أن يعمدوا إلى ارجاع المفصولين، يشمل ذلك الميتين منهم، في أقل من ٢٤ ساعة بعد الانقلاب ويدّعوا أن تلك الخطوة كانت خطوة إدارية تنفيذية ولم تكن سياسية إنقاذية. يحتاج السودان لثوريين حقيقيين من المدنيين والعسكريين، يعملون سواء لانتشال هذه البلد من وهدته، فما يحدث الان هو عبارة عن عبث وخداع لا ينظر الفاعلون إلى بوائقه ولا يتفكرون في مآلاته. فليحذروا جميعهم أشد الحذر!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.