الليبرالية والعلمانية… ملاحظات أولية ومبسطة

0 84

كتب: د. عمرو حمزاوي

.

في «حوارات شارع» مع غير المتخصصين في الفلسفة السياسية والعلوم الاجتماعية في مصر، وجه لي أكثر من مرة السؤال عن معنى مفاهيم أساسية كالليبرالية والعلمانية. وقد وعدت من سألني بأنني سأعلق على الأمر في مقالات صحافية. ولذا أكتب اليوم عن المفهومين.
تستند الليبرالية في السياسة والاقتصاد والاجتماع إلى مبادئ الحرية وتكافؤ الفرص والمنافسة والمساواة أمام القانون. سياسيا، تترجم الليبرالية مبدأ الحرية إلى ضمانات للحريات الأساسية للمواطنين كحرية التعبير العلني عن الرأي وحرية التنظيم وحرية المشاركة في العمل الحزبي والنقابي. كما يضمن بالليبرالية قانونا وفي الممارسة لكل القوى والأحزاب وبغض النظر عن عظم أدوارها أو محدوديتها نفس الفرص للمشاركة في المنافسة السياسية.
وتعنى المساواة أمام القانون فيما خص المواطنين ضمان احترام حقوق الإنسان وعدم التمييز القانوني ضد مجموعات من المواطنين إن على أساس الانتماء الديني أو العرقي أو المناطقي أو الاجتماعي أو على أساس النوع. وتعنى فيما خص الدولة وفعلها التزام الحياد الكامل إزاء المواطنين والمساواة بينهم، وكذلك إخضاع شاغلي المناصب العامة في السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وفي مؤسسات الدولة للمراقبة والمساءلة والمحاسبة القانونية. وتعنى في المؤسسات الخاصة، سياسية واقتصادية واجتماعية، احترام وتفعيل نفس القواعد في ظل رقابة تمارسها الدولة ومؤسساتها.
اقتصاديا، تترجم الليبرالية مبدأ الحرية إلى ضمانات للملكية الفردية والخاصة، وإلى إدارة للنشاط الاقتصادي وفقا لآليات اقتصاد السوق الحرة. اقتصاديا أيضا يعني كل من تكافؤ الفرص والمنافسة على مستوى المواطنين أن الدولة تعمل باستمرار لتكفل لهم جميعا القدرات التعليمية والخبرات المهنية الكافية لمشاركتهم الفعالة في اقتصاد السوق، وتشجع ترقيهم إلى درجات أعلى على سلم الدخول والظروف المعيشية وتحميهم في لحظات السقوط بإعانات فقر وبطالة وإعانات للأسر والأطفال وكبار السن وبرعاية صحية كاملة.

تضمن الليبرالية، اجتماعيا، حريات المواطنين المدنية والشخصية وتحمى قدسية الحياة الخاصة انطلاقا من قبول الحق في الاختلاف والتسامح مع الرأي الآخر، وفى إطار احترام القوانين المعمول بها والأعراف المقبولة ومع التزام عدم الإضرار بالمصلحة العامة

وتوظف الدولة هنا الكثير من أدوات السياسات العامة كالنظم الضريبية التصاعدية والتمويل العام لشبكات الرعاية الصحية والضمانات الاجتماعية والإدارة المباشرة لبعض المؤسسات التعليمية. كما يفعل المبدآن، تكافؤ الفرص والمنافسة، على مستوى الكيانات الاقتصادية بالامتناع قانونا وفى الممارسة عن تمييز الكيانات الكبيرة على المتوسطة وصغيرة الحجم، والحيلولة دون نشوء احتكارات أو شبه احتكارات تخل في نهاية الأمر بمبدأ الحرية الاقتصادية وباقتصاد السوق.
أما المساواة أمام القانون فترتبط اقتصاديا بتطبيق القواعد والضوابط المنظمة لاقتصاد السوق على المواطنين والكيانات الاقتصادية دون تمييز، وتطوير إجراءات قانونية وآليات مؤسسية لمراقبتهم المستمرة ومساءلتهم ومحاسبتهم عن تجاوزات أو أفعال تضر بمبدأ الحرية الاقتصادية وتهدد تكافؤ الفرص والمنافسة.
تضمن الليبرالية، اجتماعيا، حريات المواطنين المدنية والشخصية وتحمى قدسية الحياة الخاصة انطلاقا من قبول الحق في الاختلاف والتسامح مع الرأي الآخر، وفى إطار احترام القوانين المعمول بها والأعراف المقبولة ومع التزام عدم الإضرار بالمصلحة العامة. اجتماعيا أيضا تترجم الليبرالية تكافؤ الفرص والمنافسة والمساواة أمام القانون إلى بناء مجتمعي مفتوح يقبل حراك المواطنين بين الطبقات والفئات إلى أعلى وإلى أسفل. يضمن المجتمع المفتوح المساواة الكاملة بين المواطنين دون تمييز ينتج عن تمايزاتهم الاجتماعية، ويسعى في جميع الأحوال لأن يكفل لهم جميعا القدر الكافي من الخدمات التعليمية والخبرات المهنية والضمانات المعيشية الذي يمكنهم من الحياة الكريمة ومن المشاركة الفعالة في المجتمع.
أما العلمانية فتشير إلى معان أربعة رئيسية. أولها، هو المساواة الكاملة بين المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية، فمن رحم العلمانية ولد مفهوم المواطنة المدنية الجامعة، وكفلت الدول الحديثة في دساتيرها وتشريعاتها حقوقا اجتماعية وسياسية متساوية لأبناء الوطن الواحد من أتباع الديانات المختلفة.
ثاني هذه المعاني هو ضمان حرية ممارسة التعاليم والشعائر الدينية في إطار من المساواة القانونية لا يفرق بين دين الأغلبية ودين أو ديانات الأقليات ويحمي التعددية القائمة، فتقديم المواطنة المدنية على الانتماء الديني استتبع التزام الدول الحديثة الحياد التام بالامتناع في فعلها ومؤسساتها عن التمييز، سواء الإيجابي، أي المحاباة، أم السلبي، أي الاضطهاد، باسم الدين.
المعنى الثالث للعلمانية هو فصل الدين عن الدولة والسياسة وخضوع الهيئات الدينية، كغيرها من الهيئات الحكومية وغير الحكومية في المجتمع الحديث، لرقابة السلطات العامة خصوصا السلطة القضائية بهدف المنع المسبق لأي تجاوزات قد تحدث داخلها أو الكشف اللاحق عنها ومعاقبة مرتكبيها. فالعلمانية تستند إلى نظرة واقعية للهيئات الدينية لا ترى بها مجرد كيانات طاهرة لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها، ولا تضفي قداسة على رجال الدين، ومن ثم تعاملهم كغيرهم من المواطنين المسؤولين عن أفعالهم أمام القانون.
أما المعنى الرابع، فيتمثل في تحول الدين بتعاليمه وهيئاته ليصبح أحد الإطارات والأنساق القيمية الموجهة لحركة الدولة والمجتمع والخاضعة لسيادة الدستور ومبادئه الكبرى.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.