السودان: الأمة والمركز المهيض وإرادة العيش معاً (2-2)

0 49
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
إذا عدنا إلى انعقاد ورش عمل قوى الحرية والتغيير التي بدأنا بها المقال صح السؤال لماذا احتاج المركزي أصلاً ليعيد النظر في اتفاق جوبا للسلام الذي انعقد في دولة انتقالية هو الحاكم فيها؟ بل متى طرأ له، وكيف، أن للشرق مسألة تحتاج إلى ورشة نقاش منفصلة حولها؟ والإجابات ميسورة. فما استوجب إعادة النظر في اتفاق جوبا أن المركزي لم يدخل التفاوض حوله بأي استراتيجية سوى الخروج منه بخبر انجاز سعيد للعالمين كما في قول مراقب وقتها. ولن يخفى حتى على القارئ المتعجل للاتفاق الحشو فيه حتى شمل تعيين ممثلين عن الحركات المسلحة الموقعة على الاتفاق في إدارة العاصمة القومية. ولم تعتبر أطراف الاتفاق أن للعاصمة أهل من سائر السودان ولن يقبلوا بحكومة عليهم مساءلة أمام غيرهم لا هم.
ولا يدري المرء أيضاً كيف قبل المركزي اتفاقاً للسلام لم يقتصر على حملة السلاح، بل شمل حلفاء لهم من سائر أقاليم السودان لم يعرف عنهم حمل السلاح. وصحبة غير المسلحين هؤلاء في اتفاق جوبا هي الأصل في مشكلة الشرق التي خصص المركزي ورشة عمل مستقلة لمناقشتها. فبفضل وجود هؤلاء الحلفاء غير المسلحين في دائرة التفاوض للسلام خرج الاتفاق بما سمي ب”المسارات”، أي اتفاقات ملحقة بالاتفاق العام خاطبت مشاكل أقاليمهم ووضعت حلولاً لها.
وأثار مسار الشرق بالذات احتجاجاً تضرج بالدم. فرفضت جماعات في الشرق أن تتعاقد فئة منهم على اتفاق لتنمية إقليمهم من وراء ظهرهم. وتصاعدت مقاومة هذه الجماعة في الشرق تصاعداً كان من مقدمات مصرع الحكومة الانتقالية بانقلاب 25 أكتوبر 2021.
وعليه لم يكن اتفاق جوبا الخبر السعيد الذي انتظره المركز. كان وبالاً عليه. وورشة المركزي لمناقشة قضية الشرق استدراك محفوف بالمصاعب. فلا الجبهة الثورية التي تعاقدت في سلام جوبا عن مسلحي دارفور، ولا الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة التي وقعت اتفاق الشرق، ستقبل عن طيب خاطر أي مراجعة للاتفاق. وسبقت بالقول إنه خط أحمر.
الأمة في قول الفيلسوف الفرنسي إرنست رينان هي إرادة للعيش معاً. ولن تكون بغير مركز تتنادى به أطرافها بعضها البعض فيستجمعها من الشتات. والمركز في السودان كما رأينا معطوب حتى صح قول ييتس عنه. وربما احتاج ليتعافى وينهض بدوره التاريخي إلى غير هذه الندوات، أو أكثر منها. يحتاج أن يلملم أطرافه هو نفسه في قوى الحرية والتغيير التي تفرقت شيعاً. ومع ما يبدو من “تكاثر الزعازع وتناقص الأوتاد”، في عبارة لمنصور خالد، فعمر الدعوات لتقرير المصير مزيدات لا عمر لها وإن طالت واسقمت.
فالسودان حقيقة لا تقبل القسمة. فهو ليس فضاء سكانياً وجغرافياً تاريخياً فحسب، بل اختلط أهله أيضاً منذ دولة المهدية (1881-1898) بالذات خلطة سيكون من الاستحالة إعادة تعبئة أهله في دول إثنية أو قبلية مستنفرة. فلم يلغ انفصال الجنوب، أقل أجزاء السودان عمراً في فضائه، أواصر ربطته بالوطن القديم. فأنجح دور النشر باللغة العربية هي الآن في جنوب السودان لا في السودان مثلاً. بل تجد اتفاق جوبا على علاته ربما كان الوثيقة السودانية النادرة الثانية التي قالت إن السودان مما يبني على بينة اختلاف أعراق أهله وثقافتهم بفصل الدين عن الدولة. وسبقه إلى ذلك بصورة بسيطة إعلان 9 يونيو 1969 الذي قال لأول مرة أن بناء الأمة سيكون بالنظر للتباين في ثقافاتها وأعراقها.
يتعافى المركز، الذي وقفنا على انحلال قبضته، الآن من غلواء ثقافية وسياسية مكلفة. فقبل كما رأينا، وبعد لأي، الوقوف على مسافة واحدة من ثقافات الأمة وأعراقها. علاوة على أن قيامه على الديمقراطية المستعادة بعد ثلاثين عاماً من الديكتاتورية مما ستسترد به الحواضن عابرة الإثنيات والقبائل مثل النقابات والأحزاب نفوذها فتطبع الناس على إرادة الأمة لا تفكيكها. إن فرص المركز ليكون قطباً للأطراف “المتمردة” ما تزال قائمة متى تحلل من تاريخ ممل لفرض نفسه بالقوة أو بالوهن. وستعينه على ذلك حقيقة أن السودان بلد قديم لم يكف التنبؤ بانفراطه منذ السبعينات. غير إنه بقي بشيء من الخسارة يشحذ إرادته ليكون الأمة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.