ماذا تقدم العَلمانية لاصحاب السَعِية والنفوس الرضية؟
كتب: د. الوليد آدم مادبو
.
حالما عجزت (قحت) عن إقناع “الكتلة الديمقراطية” بالانضمام للاتفاق الاطاري لجأت لمحاولة في استبدالها بجماعة الحلو الذي ما زال متمسكاً بخياري العلمانية وتقرير المصير. يجب ان نفكر في السبل الدستورية التي ستحقق الفدرالية الثقافية والسياسية والاقتصادية ففكرة استبدال مجموعة بأخرى حيل إنقاذية قديمة اثبتت عدم جدواها طيلة الثلاث عقود . ان انجع السبل في العمل السياسي تكمن في أهمية مواجهة المشكلة وضرورة التفكير بجرأة وواقعية لإيجاد الحلول لها في حينها لأن التسويف لا يزيد المشاكل إلا تعقيداً وقد دلت التجارب كافة على ذلك.
إن كادر حزب الامة الذي انتدب للقاء قيادات الحركة الشعبية مؤخراً لا يملك المقدرة الفكرية لنقد العلمانية -الاريحية وحدها لا تكفي، وجماعة الحلو يتبنون الفكرة بصورة دوغمائية لا تراعي مستوى وعي المواطن او دائرة اهتمامته المعيشية. من الناحية العملية الإجرائية، هل هناك مِشرط سحري يمكنا فصل الدين به عن الدولة (قد يكون موجوداً في شنطة أحدهم، ابحثوا عنه)؟ كيف يمكن فصل القيم عن تصميم وتنفيذ السياسات؟ هل تشمل القيم الدين ام ان هناك قيماً عالمية يلزمنا الاحتكام اليها؟ اذا كان الدين هو حيلة الكثيرين للوصول الى مرتقى الانسانية، فما هو موقف الاخرين، جماعة الكجور مثلاً؟
الى حين الوصول للإجابة على هذه الاسئلة الفلسفية الوجودية حتكون “عين المواطن” طلعت. بالله عليك، ماذا تقدم العلمانية لاصحاب السَعِية والنفوس الرضية الذين يقطنون الجبال أو الوديان؟ الفدرالية ستحقق الاستقلالية للولايات دون داعي للمماحكة أو اللغط. لا داعي اذاً للمشاكسة أو الامعان في الاختلاف بمحاولة خلق اشكالية حول المصطلحات. السؤال: هل لدينا القدرة المؤسسية لضمان الشفافية المالية والكفاءة الادارية حال تطبيق الفدرالية أم إننا سنعين “حاكماً عاماً” لكل اقليم كي نحقق لبعض الاشخاص أحلامهم الطفولية ونرهق كاهل المواطن بضرائب كي نضمن الرفاهية لهؤلاء المحرومين -عيال الحدادين- على حساب الغلابة من السودانيين؟ إن اسطول العربات الذي تملكه حكومة دارفور الوهمية قد لا يكفي لتشييد مدارس ومشافي لأهلنا في المعسكرات لكنّه يؤكد بأن قُطاع الطريق هؤلاء لا يمكن أن يكونوا قادة لأنهم يفتقرون للأهلية الاخلاقية والقدوة الانسانية.
الفدرالية الاقتصادية تعني أن لكل ولاية او اقليم الحق في التصرف في موارد الاقليم بما يحقق مصلحة الاهالي وليس العصابات التي استولت عليه بوضع اليد (اتفاقية جوبا نموذجاً). الفدرالية الثقافية والسياسية تعني ببساطة أن لكل جماعة الحق في الاحتكام للمنظومة القيمية التي تعنيهم. كان المرحوم أحمد إبراهيم دريج يمازحني يوماً فقال لي: نحن أهلك الفور نشرب مُر ونكتب مر، يعني يشربوا البغو ويكتبوا المحاية. قال لي احدهم كلام شبيه هذه الظهيرة: لو ناس الشمالية رجعوا لعريقيهم -دا لو خلوا اصلاً- وخلوا الوصاية على باقي أهل السودان، كان الامور استعدلت. يقيني أن ناس الشمالية أنفسهم ضحايا الاستبداد الذي عانى منه بقية أهل السودان.
لقد درست في شيكاغو بالولايات المتحدة وعرفت ان ولاية إلينوي تمنع القمار والدعارة، بينما هناك ولايات مجاورة تبيح كل ذلك “وبالغانون”. البارات لا تفتح يوم الأحد لأنها عطلة مسيحية، وهناك محليات لا تسمح البتة ببيع الخمر. الملاحظ هنا أننا اقتصرنا مفهوم العلمانية على مسائل أخلاقية منها ما يدخل في دائرة المسؤولية الشخصية، لكننا لم نتناول القضايا المجتمعية والاقتصادية التي لم تنل قسطها في التداول -خاصة في المجتمعات الاسلامية- من منظور حداثي. هل هناك دراسات ميدانية لحجم الاضرار التي حققها ما يسمّى بالاقتصاد الاسلامي (الذي لم يتعد حدود المعاملات المصرفية) في بلدان مثل السودان منعت الازدواجية وحكمت علي البنوك الغربية بأنها بنوك ربوية؟ إن أخر دراسة اطلعت عليها تفيد بأن حجم المعسرين في البنوك الرأسمالية في السودان كان ١٠٪، علماً بأن حجم المعسرين في البنوك المسمّاة اسلامية يكاد يفوق ٩٠٪. اكيد هناك اسباب هيكلية وبنيوية لكن يبقى السؤال قائماً: هل ساعدت فكرة الاقتصاد الاسلامي في الحد من انتشار الفقر ام ان المال بقي دُولَة بين الاغنياء؟
قناعتي أن العلمانية المؤسسية (عدم تدخل الطائفة في شؤون الحزب مثلاً) وليس الوجودية (طالما أن هناك أتباعاً ومريدين فلن تمنعهم من هتاف “الله أكبر ولله الحمد” في الحملة الانتخابية) ستجعل الدين عقلانياً والسياسة أخلاقية لكنني أدرك أيضاً بأن ذلك يحتاج مستوى من الوعي لا يتحقق إلا بتحقق درجة من الازدهار الحضاري والمادي. بمعني أخر لا يمكن لمجتمع متخلف أن يعمل على فكرة الأنسنة (تجاوز انتمائه الاولي الى مستوي الانتماء الانساني)، إنه إجراء يستغرق قروناً من الدمقرطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. التحضر لا يعني بالضرورة التخلص من الدين لكنه يعني بالضرورة التحرر من التزمت وما شهدناه مؤخراً من محاولة أحدهم حرق المصحف تبقى حالةً نشازاً يمكن مقاومتها بالقانون الذي قد يمثل تحدياً للدستور العلماني في اوروبا المحتضرة روحياً وليس دينياً، اوروبا تحتاج إلى روحانية وليس وارثوذكسية دينية فقد تجاوزت هذه المحطات الأولية.
ختاماً، إن جهل (قحت) بخارطة دارفور وعدم المامها بتضاريس السودان التاريخية والاجتماعية جعلها تولي أهمية غير عادية لقادة الحركات، كلما تأخر موعد تنفيذ الاتفاق الاطاري كلما تأزم الوضع السياسي والاقتصادي وفقد الجمهور ثقته في إمكانية التغيير السلمي والديمقراطي. لن تستطيع هذه الحركات ومن عاداها يوماً تجاوز ظروف النشأة والتكوين التي جبلت فيها على الغنيمة (منهم من يملك منجماً للذهب، منهم من يملك مصرفاً، منهم من هو فاغرٌ فاه للتصرف في مال الشعب دون حسيب أو رقيب، منهم …..)، قد يأخذها وقت لغرس قيم الايثار والوطنية فتمثيل الاقاليم ليس حكراً على أشخاص هم سبب دمار الهامش وأس البلاء فيه!