جيل الاستقلال.. البدايات والمآلات (7 من 10)
كتب: د. عمر مصطفى شركيان
.
على أيَّة حال، ففي سنوات الاستقلال طغت الشعارات الجوفاء لدغدغة مشاعر الشعب السُّوداني الذي كان يتوق إلى خلع قميص ألبسه له الاستعمار، وكان من أبرز شعارات هؤلاء القادة: “التحرير قبل التعمير”، وبهذه الشعارات التعبويَّة ملأوا بها الفضاء، وبلغوا بهتافها عنان الجوزاء. كان هذا من أمر السيادة التي أوكلوا بها قادة الاستقلال، فأساؤوا استخدامها أيما إساءة؛ ومن هنا نستطيع أن ندرك أنَّ السياسة غير قابلة للفهم خارج حدود الأخلاق. إذ أسوأ ما في الأمر حينذاك هو عمليَّة تخدير العامة من الشعب السُّوداني الذين كان كاهلهم مثقلاً بالخمول الطائفي الناجم عن التجهيل والتمثيل الترميزي، وقد غُشي على أبصارهم بهيبة السيِّد، فأضحوا مفتونين حتى الإفراط بخرافات كاذبة تحول دون تفكيرهم بحريَّتهم الطبيعيَّة.
غير أنَّ الذي لا مراء فيه هو عامل المحسوبيَّة، والمحسوبيَّة أو المحاباة أو الواسطة تعني تفضيل الأقارب أو الأصدقاء الشخصيين بسبب قرابتهم وليس كفاءتهم. إنَّها المنهجيَّة التي جاء بها الحكام والأشخاص الذين هم في مواقع السلطة المرموقة، حيث تقوم على إعطاء فوائد محدَّدة لأفراد آخرين، وبالمقابل الحصول على خدمات ومصالح تدعمهم، وتقدِّم المنفعة لهم، أو بسبب الحسب والنسب. إذ يُعد هذا النمط من الواسطة المذمومة أحد أشكال الفساد الإداري. إنَّ شيوع تعيين الأقارب والأصحاب في مرافق الدولة المختلفة كان سمة عند أغلب آباء الاستقلال، وهناك أسماء سودانيَّة من أسر معروفة أخذت تتردَّد في الخدمة العامة على مر عهود الحكومات الوطنيَّة، وبخاصة إذا علمنا أنَّ أشقاءً كانوا من مؤسِّسي حزب الأشقاء. فلا غرابة، إذاً، حين تقمَّص اسم الحزب صفة الإخوة الأشقاء. فقد تأسَّس الحزب إيَّاه على يد 10 من الاتحاديين الذي عُرفوا حينها ب”العشرة الكرام”، ولعلَّ أبرزهم هم الإخوان: علي وإسماعيل الأزهري، يحيى ومحمود الفضلي، أحمد وحسن محمد ياسين، محجوب وحسن عوض الله، فضلاً عن قيادات أخرى أبرزهم عبد الرحيم شدَّاد، ومحمد عبد الحليم العتباني، وإبراهيم جبريل، والريح عيدروس. وفي هذا الأمر يتساءل الدكتور الراحل منصور خالد مشجباً “أليس من الغريب – مثلاً – أنَّ أكبر حزب سوداني في الجماعة الاتحاديَّة لم ينسب نفسه لفكرة أو توجه، وإنَّما لأن َّ منشئيه كانوا أشقاءً!”
بموجب عامل التوظيف أو التوريث الوظيفي والجيني الذي كان سمة ذلك العهد تجاهل آباء الاستقلال الأغيار في المناطق الريفيَّة النائية في البلاد. وقد استشعر أهل الجنوب هذا الظلم باكراً، وهو الذي تمثَّل في قضيَّة السودنة، والقسمة الضيزي التي مارستها اللجنة المنوطة بسودنة الخدمة المدنيَّة والجيش والشرطة، وكان لهذا الأمر تبعاته الكارثيَّة في تأزيم قضيَّة الوحدة الوطنيَّة، واستعار واستطالة الحرب الأهليَّة في جنوب السُّودان (1955-1972م)، وبالطبع والطبيعة ضمن أسباب أخرى. فبرغم من امتلاكهم مهارات إداريَّة، إلا أنَّ الآباء المؤسِّسين للحكومات الوطنيَّة افتقدوا السياسة الرشيدة في تدبير الأمور.
في هذا الشأن كتب الدكتور عبد الوهاب الأفندي قائلاً: “إنَّ محاولة تطبيق معايير تقنيَّة في عمليَّة سودنة الوظائف في مطلع الخمسينيَّات تمهيداً للاستقلال كانت عامل إشعال الحرب الأخلاقيَّة في الجنوب – كما ذكرنا أنفاً – حيث أدَّى استخدام المعايير الأكاديميَّة-المهنيَّة وحدها إلى تأهيل ستة إداريين من جنوب السُّودان فقط لوظائف عليا، وفي الإدارة المحليَّة. وقد فجَّر تولي مواطنين من الشمال كل الوظائف الإداريَّة العليا في الجنوب غضباً مفهوماً لدي النخبة الجنوبيَّة، ووصفاً للوضع الناشئ بأنَّه “استعمار جديد”. ولا شك في أنَّ تلك القرارات مثَّلت قمة السذاجة.” ومن هنا ندرك أنَّ الساسة في ذلك الحين من الزمان لم تكن لهم حظوة “بمهارات وقدرات في مجال معالجة النزاعات واستباقها، والتوفيق بين الآراء المتعارضة، وأهم من ذلك توخي العدالة في توزيع الأعباء والخدمات بين الأفراد والجماعات والمناطق.” كل هذا يعزِّز ما ذهب إليه محمد الشيخ حسين وفحواه “أنَّ الأنظمة السياسيَّة المتعاقبة على حكم السُّودان منذ استقلاله في كانون الثاني (يناير) 1956م، لم تنطلق من رؤية ثقافيَّة، ولا مشروع مجتمعي يستند إلى منظومة قيم بعينها (…) وإنَّ المثقفين الذين اجتذبتهم هذه الأنظمة قد خدموا أنفسهم، وتلك الأنظمة أكثر مما خدموا أفكارهم ومشاريعهم المجتمعيَّة.”
لقد تصرَّف الآباء المؤسِّسون بعنجهيَّة وازدراء بحقوق الأغيار، وزعموا أنَّهم أدرى النَّاس بطبيعة الإنسان السُّوداني، وما دروا أنَّ النتائج في كثرٍ من العوامل قد يكون بعضها بسيطاً، والبعض الآخر مركَّباً، والبعض الثالث على درجة من التعقيد معتبرة، لذلك نجد أنَّ النفس البشريَّة ذات طبيعة عصي الفهم، والأغبياء هم الذين يعتقدون أنَّهم يفهمون النفس البشريَّة؛ فهناك النفس الأمارة بالسوء، والنفس المطمئنة، ثمَّ النفس اللوَّامة. إذ تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الأمر يتطلب حدساً عميقاً لفهم أفكار الإنسان وآرائه ومفاهيمه وضميره، لأنَّها تتغيَّر بتغير ظروف وجوده المادي في علاقاته التاريخيَّة والحياتيَّة. ولعلَّ تاريخ الأفكار يبرهن أنَّ الإنتاج الفكري يتغيَّر قي الهيكل والمحتوى كما يتغيَّر المنتوج المادي. والأفكار الحاكمة لكل عصر سائد تعتبر أفكار الطبقة المتحكِّمة. والأفكار التي كانت تعمل على تثوير المجتمع قديماً يمكن أن تنبثق منها أفكار حديثة لقيادة مجتمع جديد، وتعمل في خطٍ متساوٍ مع ذوبان الأفكار الرجعيَّة وظروف الإبقاء على الماضي. فحين أمسى العالم القديم يحتضر حلَّت المسيحيَّة مكان الأديان القديمة، وحين استسلمت الأفكار المسيحيَّة للأفكار العقلانيَّة في القرن الثامن عشر شرع المجتمع الإقطاعي في صراع مع البرجوازيَّة الثوريَّة. ومن ثمَّ أفسحت عبارات الحريَّة الدِّينيَّة وحريَّة الضمير مجالاً لحريَّة التنافس في إطار المعرفة.
لا ريب في أنَّ الأفكار الدِّينيَّة والفقهيَّة والأخلاقيَّة والفلسفيَّة قد تمَّ تحديثها من خلال التطوُّر التاريخي. بيد أنَّ الحريَّة والعدالة تعتبران حقائق مطلقة أو أبديَّة، وهي عناصر مشتركة وسط كل الدول والمجتمعات والشعوب. إذ ينبغي التحرُّر من النزعة الاعتذاريَّة والتسويقيَّة للتاريخ، وبخاصة التاريخ الإسلامي، فمن غير وجود العدل سوف ينتشر العنف، والحنث بالعهود إثم، لأنَّه ميل من الحق إلى الباطل. النظام الذي لا يكفل للنَّاس أمناً ولا حريَّة ولا مساواة ولا عدالة، وإنَّما يقيم أمرهم على العسف والبطش وتحكُّم السلطان، غير جدير بالطاعة والانقياد. إنَّ للشعوب حقوقاً، وأوَّل هذه الحقوق أن يُرد البؤس عن الشعب ما وجدت الدولة سبيلاً إلى رد البؤس عن الشعب.
مهما يكن من أمر، فقد اعتمد الآباء المؤسِّسون على نفس النهج السياسي الذي استعانوا به لمكافحة الاستعمار، وذلك دون تطوير المنهج لمواكبة المرحلة القادمة، وقد اكتفوا بالشعار التثويري “التحرير قبل التعمير”، كما تكلَّمنا آنفاً، دون أن يكون لهم برنامج للوحدة الوطنيَّة، والتنمية الاقتصاديَّة، ومحو الأميَّة، ودرء المجاعات، ومكافحة الأوبئة، والكوارث الطبيعيَّة الأخرى. كذلك إنَّهم استخلصوا من سلسلة الوقائع المضطربة في أنفسهم شيئاً يروقهم لكي يدعموا به تصوُّراتهم لما يمكن أن يكون عليه السُّودان، والتمسوا من الماضي أدلة تلائم حججهم. أما ما لا يتفق مع أمزجتهم فإنَّهم تجاهلوه، وأعلنوا عدم جدواه. وبما أنَّنا لا نستطيع أن نلج في خلجات أنفس هؤلاء الطليعة من المتعلمين الأوائل، الذين أداروا حراك الاستقلال، إلا أنَّنا بالكاد نستطيع أن نحكم عليهم من تأمُّلات أفكارهم، ونكدُّ في البحث عن السبب أو الأسباب في قانون السببيَّة، التي قادت بهم وبالبلاد إلى ما نحن عليه اليوم. والسبب – كما عرَّفته معاجم اللغة العربيَّة – هو الشيء الذي يتوصَّل به إلى غيره، وهو يشابه معنى العلة، وذلك لأنَّ علة الشيء سببه، ﴿وأتيناه من كل شيء سبباً، وأتبع سبباً﴾ (الكهف: 18/84). كما أسلفنا قولاً بأنَّ الصفوة التي نالت تعليماً متواضعاً طغى وتجبر على أهل الرِّيف السُّوداني. كذلك الفئة الأخرى من أبناء الحاضرة، التي نالت بسطة في العلم، كانت من إثنيَّة عروبيَّة إسلاميَّة، أو من أدعياء العروبة.
للمقال بقيَّة،،،