دولة النهر والبحر: من مأمنه يؤتي المركز (2-2)
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
بين دعوات تقرير المصير-الانفصال المتكاثرة في السودان بدت الدعوة ل”دولة النهر والبحر” نشازاً. فأهل هذ الدولة هم بالتحديد من تشكل منهم “المركز” الذي نهضت في وجهه حركات تقرير المصير والانفصال في الجهات التي عُرفت ب”الهامش” في جنوب السودان ودارفور وإقليم النيل الأزرق. فشمل إعلان الدعوة لهذه الدولة (29 أغسطس 2020) 10 ولايات من ولايات السودان ال 18غطت وسط السودان وشماله وشرقه. وبدا من الدعوة وكأنها “قلب للمنضدة”. فإذا اتفق لغيرهم أن حل مشكلتهم في السودان في الانفصال عنه فهم أيضاً يرون “الحل في الحل” في عبارة قديمة شهيرة لسياسي سوداني. ولعل الوارث يرث حجراً.
سبقت دعوة النهر والبحر دعوة مماثلة في 2010 عرفت ب”العرنوبية”. وتمثلت جغرافيا هذه الدعوة في فضاء النهر والبحر نفسه. غير أن اسمها راجع إلى ثقافة هذا الفضاء التي هي مزيج من ثقافة العرب المسلمين الوافدة للسودان منذ القرن التاسع الميلادي وشعب النوبة والبجا التاريخي. وهذه الهجنة هي الحبل السري الحضاري لشعوب العرنوبية والتي تشكل أساساً لقيام دولة قومية منهم. والعرنوبية حالة زهد في الوطن السوداني الواحد سبقت النهر والبحر. ونفى منظروها أن دعوتهم عرقية. فهامش الوطن، في قولهم، قد رفع السلاح طلباً لتقرير المصير بينما يتعلل الشمال بأنه، متى سقطت حكوماتهم الديكتاتورية، تراضى الجميع على الوحدة الوطنية. وهذه في نظر الداعين للعرنوبية خطة كاسدة. فلن يتعافى الانفصالي من انفصاليته. ولا غضاضة.
وأكثر زهادة النهر والبحر في الوطن هي نقص حاد في التاريخ. وسأل أحدهم مرة لماذا لا نحصل على النتيجة المرجوة من ثوراتنا. وكان رده أن سببه التاريخ الغلط الذي نأتي به إليها. فلا يقوم دليل على قول النهر والبحر بأن دارفور زنوجية منبتة عن العرب ودوائرهم في الحجاز والبحر المتوسط. فأقام سلاطين مملكة دارفور علاقات وثقى مع الدولة العثمانية منذ نهايات القرن الثامن عشر اضطربت الروايات عنها. فبينما رأى السلاطين أنها ضمنت استقلال مملكتهم جاءت نصوص صريحة من العثمانيين بتبعية دارفور لمحمد علي باشا. ومن عزة سلاطين دارفور بعلاقتهم بالعثمانيين أن سمى السلطان عبد الرحمن نفسه على أختامه ب”الرشيد” التي حيّاه بها السلطان سليم الثالث (1789-1807) وهو يتلقى هداياه.
صحيح أن الإنجليز لم يستولوا على دارفور إلا بعد 18 عاماً من “استعادتهم” لمعظم السودان، كما تجري العبارة. ولم يكن تباطؤهم ذلك زهداً في تملك دارفور كأرض سودانية. كان وراء تأخرهم اعتبارات لوجستية وشواغل مع الفرنسيين الذين كانوا عند حدود دارفور الغربية. ولن نفهم ذلك التباطؤ على وجهه الصحيح إلا باعتبار أمرين. أولهما أن الإنجليز أقروا سلطان دارفور عليها شريطة دفع جزية سنوية بمثابة اعتراف بتابعيته لهم. والأخير، وهو الأهم، أن اتفاقية الحكم الثنائي بين بريطانيا ومصر (1899) شملت في السودان المناطق التي سبق للحكومتين “استعادتها” مثل الخرطوم والجزيرة والشرق علاوة على “المناطق التي ستستعيدها الحكومتان معاً” مثل دارفور. فلم يتأخر الإنجليز عن احتلال دارفور سهواً حتى طرأ طارئ قادهم إليه. كانت دارفور في واقع الأمر أرضاً سودانية “استعادتها” للأملاك المصرية فرض وجوب. وصح بذلك النظر في تأخر الإنجليز عن احتلالها في غير ما تهيأ للنهر والبحر، وحتى لانفصالي دارفور أنفسهم، من أنها إضافة عشوائية للسودان.
ما تزال الدعوة لدولة النهر والبحر خطاباً على الوسائط بين شباب زهد في وطن طالت الحرب فيه واسقمت. ولن تجد صدى لها في دوائر الرأي والفكر المتنفذة. فلم تعقد قوى الحرية والتغيير بمختلف مسمياتها مثلاً حلقات نقاش مع دعاتها الفصيحين جداً. وبدا لي أنها دعوة استقل فيها هؤلاء الشباب بموقف من الوحدة الوطنية حيال مركز منسوبين إليه شاءوا أم أبوا. وكان استقلالهم عن وجهي المركز: وجه مثل دولة الإنقاذ التي أرادت اخضاع الهامش بالحرب الزؤام دون جدوى، ووجه معارضتها التي في الحكم الآن والتي تريد استرضاءه بتنازلات مسرفة مثل اتفاق سلام جوبا. وهو اتفاق في مركز الدائرة في خطاب النهر والبحر. فلم يروا منه دارفور تجنح للسلم إن لم تزداد عنفاً. وكان سبباً للفتنة و”الحسد” التنموي من أقاليم أخرى بما فيها أقاليم النهر والبحر.
بدا لي، فوق كل هذا، أن دولة النهر والبحر لم تفكر بعد إن كانت ستنال انفصالها بيسر متى قررت ذلك من طرف واحد. وصح التحذير من هذه الاستنامة هنا باستعادة كلمة للعقيد جون قرنق. كان، وهو في طور مشروعه لبناء السودان الجديد الموحد بفوهة البندقية، إذا سمع من أحد الشماليين مللاً طالب به بالانفصال من الجنوب قال له: “خذ سلاحك وأطلع جبل أو غابة أو صحراء وحارب لانفصالك”.