المركز والهامش: من ينبح الشجرة الخطأ؟ (1-2)

0 60

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

يروج في الوسائط هذه الأيام جزء يسير من حديث قديم للمفكر السوداني الراحل محمد أبو القاسم بدا للناس وكأنه تنبأ فيه بدعوة انفصال شمال السودان ووسطه وشرقه، فيما عرف بدولة النهر والبحر، من أقاليم دارفور وجنوب كردفان ومناطق في النيل الأزرق. فاستنكر أبو القاسم في جملته هجوم جماعات أطراف السودان على الشماليين السودانيين من دعاة دولة النهر والبحر الحاليين. فقال إنهم في الهامش يستهينون بالشمال لأن الحاكم منهم، أو عليهم، هي دولة الإنقاذ الإسلامية. وعاجل بقوله إن الإنقاذ ليست قدر الشمال لا محيص له منها. وستسقط. ولكن المبالغة في تحميل الشمال وزر التهميش ستؤدي إلى عنصرية مضادة. فسيخرج الشماليون بدعوتهم الخاصة للانفصال من الهامش قائلين لأهله “حلو من طرفنا”. وغير خاف أن نبوءة أبي القاسم القديمة صدقت متى اعتبرنا الدعوة القائمة لانفصال دولة النهر والبحر من السودان.

ومهما يكن فالدعوة لفصل النهر والبحر من السودان هي العلاج الخاطئ لإشكالية المركز والهامش التي لم نحسن تشخيصها بعد. وخطؤها في أنها وجدت الحل لإشكالية سياسية بتقطيع أوصال الوطن، أي في الجغرافيا. وبدا من مثل هذا الحل أن الإشكال هي دارفور مثلاً لا السياسات التي صارت بها دارفور هامشاً أزعج بهامشيته أبو القاسم قبل دعاة دولة النهر والبحر. ومع ذلك فالدعوة لمغادرة السودان ضجراً من أقاليم فيه كدارفور هو نباح للشجرة الخطأ في قول الإنجليزية.

مما يستند عليه دعاة النهر والبحر في دعوتهم للاستقلال بدولتهم أن دارفور وأقاليم أخرى مثل جبال النوبة (جنوب غربي السودان)، الموصوفة بأنها “زنجية الفضاء”، مجرد إضافات للسودان لا أصل لها فيه. فهي إما جاء بها الإنجليز مثل دارفور مـتأخرة إلى دولة السودان في 1916 بعد 18 عاماً من احتلال معظم أجزاء البلاد الأخرى، أو كانوا قد طبقوا عليها سياسات “المناطق المقفولة” مثل جبال النوبة، أي فرضوا عليها ضروباً من العزلة تمنعها من التواصل مع أجزاء المستعمرة الأخرى.

منطق دعوة النهر والبحر أن حدود السودان الحالية من اصطناع المستعمر حق إلا في تطبيقه على السودان الحالي. فمعلوم أن غزو الإنجليز السودان في 1898 لم يكن خبط عشواء في الفضاء السوداني ومحل ما تمسى ترسى. كان في اعتقادهم أنهم إنما يستردونه، نهراً وبحراً ودارفور وجبال نوبة وجنوب سودان، للخديوية التي حكمته منذ 1821 حتى أطاحت بها الثورة المهدية في 1881. وسوءة هذه الحجة على أغلاطها أنها، حين نسبت للاستعمار اصطناع السودان، اسقطت تاريخ الحركة الوطنية السودانية التي استقلت به في 1956 من فوق حدوده الحالية. فخيال تلك الحركة، في قول بنديكت اندرسون في “الأمم المتخيلة” (1983)، هو التأسيس الثاني للأمة السودانية معززة بالحرية الوطنية ومستعيدة إرادتها الوطنية بعد طول خضوع لإرادة غيرها.

فليس بغير معنى أن من تقدم باقتراح استقلال السودان من داخل البرلمان في 19 ديسمبر 1955 كان هو عبد الرحمن دبكة، النائب البرلماني عن دائرة البقارة غرب بجنوب دارفور. ولم يُنكس العلم الإنجليزي في سائر السودان خلال الحركة الوطنية سوى في حراك وطني في مدينة الفاشر حاضرة دارفور. بل فدت دارفور الديمقراطية بشهيدين من بين شهداء ثورة أكتوبر 1964 ضد نظام الفريق إبراهيم عبود هما المرحومان صلاح عبد الله أحمد وأحمد الشريف إسحق (من 39 شهيداً في كل القطر). وشرُفت دارفور بأن شهيد تلك الثورة الأول، الأيقونة الذي أشعل نارها، هو أحمد القرشي، الطالب بجامعة الخرطوم، كان من خريجي مدرسة الفاشر الثانوية.

جاءت مسألة دارفور وغيرها من باب السياسة وسيكون من قلة الحيلة حلها بالجغرافيا. فخطاب التهميش رؤية ومصطلحاً وتكتيكاً منذ بدايات هذه القرن كان من صنع صفوات متعلمة في الأطراف. وتفكيك خطاب هذه الصفوات وفهم سياساته أدنى للرشد من تفكيك البلد.

ونواصل

محمد أبو القاسم ضجراً من كلمة “هامش”

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.