جيل الاستقلال.. البدايات والمآلات (9 من 10)

0 68

كتب: د. عمر مصطفى شركيان 

.

مما سبق ذكره وشرحه، يمكننا أن نستدرك كيف لعب الجانب العرقي – أو بالأحرى لنقل العنصري كحتميَّة ثقافيَّة (Cultural determinism) – والديني دوراً فعولاً في تهميش الرِّيف حين آل إلى رواد الاستقلال ومن تبعهم بغير إحسان أمر إدارة البلاد والعباد، والتخطيط القومي، ومن ثمَّ ابتنوا الدولة على سياسة المحسوبيَّة والفساد السياسي، واتَّخذوا الإسلام كحتميَّة روحيَّة (Spiritual determinism) وحيدة في البلاد مع التجهيل لأصحاب المعتقدات والثقافات الأخرى. وفي نهاية الأمر تسبَّبت هذه العلل في مشكلات التنمية غير المتوازية، وقضيَّة احتكار السلطة السياسيَّة لفئة بعينها، ومسألة إبقاء الثروة القوميَّة في مناطق معيَّنة، وصراع الهُويَّة، ومشكل الثقافات، وكفاح القوميَّات السُّودانيَّة بحثاً عن كراسي الجلوس حول المائدة القوميَّة. ذلك الصراع الذي بدأ سياسيَّاً في أوَّل الأمر ما لبث أن انتهى نزاعاً مسلَّحاً في نهاية الأمر، وكان أعظم إفرازاته انفصال جزء عزيز من الوطن بشعبه الطيب الأعراق، وموارده الحيوانيَّة والغابيَّة والمعدنيَّة.

التعدُّديَّة اللغويَّة والثقافيَّة سنة الحياة، ولا يستطيع كائن من كان أن ينكرها، ومن يفعل ذلك يكون جاحداً نكالاً لشرع الله وأمر الحكمة في خلقها. والذين يفاخرون بأحسابهم وأنسابهم نقول لهم كما قال ابن خلدون في مقدِّمته: “إنَّ النَّسب أمر وهمي لا حقيقة له – أي أنَّه أمر معنوي – ونفعه إنَّما هو هذه الوصلة والالتحام.” فلم يخلق الله شيئاً إلا جعله مثنى أو ثلاثاً أو رباعاً أو متعدِّداً ألوانه وأشكاله، سواءً أكان ذلك الشيء نباتاً أم حيواناً أم بشراً، ولدي المبدعين أوجه قصور، ولكن لله في خلقه شؤون. فإذا أراد الخالق أن يجعل النَّاس أمة واحدة لم يكن ذلك عليه بعسير، ﴿ولو شاء ربك لجعل النَّاس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين﴾ (هود: 11/18)؛ ﴿ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنَّ في ذلك لآيات للعالمين﴾ (الرُّوم: 30/22)؛ ﴿يا أيُّها النَّاس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنَّ الله عليم خبير﴾ (الحجرات: 49/13).

إذاً من المعلوم أنَّ التنوُّع العرقي في المجتمعات الإنسانيَّة عبر العالم ليس بظاهرة سودانيَّة؛ إذ أنَّ في كل بلاد العالم نجد مجموعات عرقيَّة تشترك في، أو تتوهم أنَّها من، أصل واحد. الأقوام القدماء عرفوا التعدُّديَّة، واهتموا بها. وفي الكنوز الأثريَّة من أهل الماضي القديم يحمل حجر روزيتا، الذي عُثر عليه في مدينة روزيتا (الرشيد حاليَّاً) في دلتا النيل بمصر العام 1799م بواسطة حملة نابليون على مصر ضمن المقتنيات الأخرى، ويقبع الآن في المتحف البريطاني بلندن، وفي الجزء الخاص بالمنحوتات المصريَّة، ويرتاده كثرٌ من السوَّاح، يحمل الحجر – وذلك بعد النجاح في فك طلاسمه – تاريخ قدماء المصريين، وتفاصيل حيوات الفراعنة العظام منذ الملك خوفو الذي شيَّد الهرم الأكبر إلى رمسيس الثاني ونفرتيتي اللذان شيَّدا المعابد الصخريَّة في أبو سمبل. تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الرشيد هي من مدن الثغور المصريَّة القديمة، وقد وردت في جغرافية استرابون باسم بولبيتين، وأنَّها واقعة على مصب فرع بولبيتين.

إذاً، كيف وقع هذا الحجر النفيس في يد البريطانيين؟ وماذا حمل في طيَّاته بعد فك طلاسمه؟ تجدر الإشارة إلى أنَّ القوَّات البريطانيَّة كانت قد طوَّقت منطقة الدلتا كجزء من عمليَّة إحكام الحصار على القاهرة، وهزيمة القوَّات الفرنسيَّة في مدينة الرشيد، ومن ثمَّ استولت على هذا الحجر قبل أن يغادر بها الفرنسيُّون إلى فرنسا. وبعد استيلاء القوَّات البريطانيَّة على الحجر في مصر العام 1801م، تمَّ تقديمه للملك جورج الثالث. أما ما جاء في النقش المنقوش في الحجر فيمثل قصة التملُّق السياسي، حيث يعرض مرسوماً يعود تاريخه إلى العام 196 ق. م. بواسطة مجلس من الأساقفة وهم يعبِّرون عن ولائهم الرَّسمي لملك مصر (بطليموس الخامس). بيد أنَّ الأهم في الأمر فيما يختص بالباحثين في القرن التاسع عشر أنَّ النَّص قد كُتب بثلاث لغات مختلفة هي ديموتيك (اللغة المحليَّة في المنطقة في ذلك الحين من الزمان)، والإغريقيَّة القديمة (التي كانت تتحدَّث بها الصفوة الحاكمة حينئذٍ)، ثمَّ بصورة حرجة اللغة الهيروغليفيَّة.

أجل، إذا كان المصريُّون القدماء قد أدركوا أهميَّة التعدُّديَّة اللغويَّة، واستخدموها في المراسيم الرسميَّة والطقسيَّة، إذاً، أفلم يجدر بنا إيلاء هذه التعدُّديَّة اهتماماً والعمل على ترقيتها! فكم من حكمة ذات مغزى، أو قول مأثور، أو عبرة تستحق التأمُّل، أو مثل من الأمثال، ربما وجدناها في لغة قوم من الأقوام، أو قبيل من القبائل، بحيث نسترشد ونتمثَّل بها في حياتنا الثقافيَّة والاجتماعيَّة، ونستزيد بها إرثنا الثقافي المجتمعي في العلوم الإنسانيَّة. الأقوام المختلفة تفهم العالم بطرائق مختلفة، وهذا الفهم المتباين ناشئ في الأساس من اختلاف الثقافات. وحين يكون الأمر متعلِّقاً بالفهم والتذكر والتحليل المعبِّر فإنَّ البشر لمختلفون بطرق متباينة، وهذه هي سنة الله في الأرض، ولا تبديل لسنة الله في الأرض.

 

للمقال خلاصة،،،

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.