ورشة اتفاق سلام جوبا: النيء للنار (2-2)

0 70
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
متى استمعت إلى جلسات من ورشة مناقشة اتفاق سلام جوبا (أكتوبر 2020) التي انعقدت في الأسبوع الماضي لاستكمال عدة الاتفاق الإطاري بين قوى الحرية والتغيير (المركزي) وأحلافه وبين العسكريين في ديسمبر 2022 لسألت: ما الفكرة منها؟
للمرء أن يسأل ما الفكرة من وراء انعقاد ورشة للتنوع وإدارته على ضوء اتفاق جوبا الذي خاطب هذه المسألة فأوفى وكفى كما سنرى. وصح السؤال بشكل خاص لأن الورشة لم تزد عن إعادة إنتاج خطاب المظلومية القومية (هامش بوجه مركز) في حضرة اتفاق لا أعرف مثله رد هذه المظلومية بشكل محيط، إذا لم نقل مبالغاً فيه. فوجدت الدكتور الباقر العفيف، من مفكري الهوية السودانية والناشط في خدمتها، عرض هذه المظلومية بحذافيرها في الورشة. ولم يكترث مع ذلك ليرى إن كان اتفاق جوبا قد رفعها عن أعراق السودانيين المختلفة وألسنتهم.
فسأل العفيف في الورشة عما وراء هذه الحرب الطويلة التي ابتلينا بها. ورد ذلك إلى رفض المركز، الذي تقلدته طواقم من الشمال العربي المسلم منذ استقلال السودان في 1956، التصالح مع الأعراق والثقافات غير العربية والإسلامية. وهذا فشل في إدارة التنوع ذي عواقب وخيمة. وبرغم أن عروبة هذا الطاقم، في قوله، مجرد زعم إلا أنه فشل في توطين نفسه في السودان، وبين أقوام غيرهم في الأعراق والثقافة.
فمن جوانب ترفعهم عن غيرهم في الوطن جعلهم تاريخ السودان في المناهج يبدأ بدخول العرب والإسلام إلى السودان في القرنين الثامن والتاسع الميلاديين مسقطين تاريخاً جللاً سبق ذلك الدخول وهو تاريخ دولة كوش (2500 إلى 542 قبل الميلاد) العامر المذهل. وهو التاريخ، في قول آخر كشوف الآثار، الأصل للحضارة المصرية. ومع ذلك، في قول العفيف، يطبق الجهل بتلك المأثرة بنا. فمتى سأل الصبيان أهلهم عن صُناع الآثار الكوشية التي يغشونها بظهر قراهم قالوا لهم هي لقوم أقدمين سبقونا إلى المكان ثم غادروا ولم يسمع منهم أحد بعد. ودعا العفيف، ناظراً للتجربة الإنجليزية، أن يكون تدريس الماضي السوداني على بينة “تواريخ”، أي أكثر من تاريخ للسودان، لا “تاريخاً” عربياً إسلامياً وحيد الجانب.
ولو كان الباقر نظر في اتفاق جوبا لوجده مهجساً بالتنوع الثقافي وإدارته كما لم يهجس عهد سوداني سبقه. فقال الاتفاق بأن المواطنة المنقاة من العرق، والدين، والثقافة، والجنس، واللون، والنوع، والوضع الاجتماعي والاقتصادي، والرأي السياسي، والإعاقة، والانتماء الجهوي أو غيرها من الأسباب هي الفيصل في التشريع.
وكررت وثيقة الاتفاق هذه الصيغة بصور مختلفة في أبوابها الثلاثة جميعاً: اتفاق القضايا المصيرية، ومسار دارفور، ومسار مناطق جبال النوبة والنيل الأزرق وغرب كردفان. فجاء في المادة ٧،١ من اتفاق القضايا القومية من وثيقة جوبا وجوب “الفصل التام بين المؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة لضمان عدم استغلال الدين في السياسة. ووقوف الدولة على مسافة واحدة من جميع الأديان وكريم المعتقدات على أن يُضَمن ذلك في دستور البلاد وقوانينها”.
ولاقى اتفاق جوبا تظلم العفيف من تاريخنا وحيد الصورة مشمراً كما لا تنتظره من اتفاق سياسي. فجاء في الفصل الثالث منه بحق لسكان المنطقتين، جبال النوبة والنيل الأزرق، المشاركة في إعادة كتابة تاريخ السودان لبيان مساهمات سائر شعوب السودان في ترسيخ الوحدة الوطنية. وكفل للمنطقتين إنشاء آليات لغرض تنزيل هذا الحق بتكامل مع المؤسسات القومية. وخص في فقرة تالية دراسة الرق، كتاريخ للتغابن في الأمة، بموضوعية وهذا استحقاق للتاريخ في موضع غريب.
لا يدري المرء، ناظراً إلى هذا العرض لحلقتين مركزيتين في ورشة النقاش حول ميثاق جوبا، كيف ستخدم مخرجاتهما مراجعة اتفاق جوبا الخلافي. فقد ساء الاتفاق في نظر الكثيرين حتى طالبوا بإلغائه بجرة قلم. وزاد تعلق الحركات الموقعة عليه حتى هددت بالعودة إلى الحرب إذا مسته هذه الورشة بسوء. ولا جدال أن الإلغاء قفزة في الظلام. وتهديد المسلحين بالعودة لمربع الحرب هراء. فالفضل في ما نالوه، وبزيادة، من الاتفاق راجع لثورة مدنية جاءت وهم في أضعف حالاتهم في ميدان الحرب.
من كل خيارات الورشة للنفع كان خيار معالجة الاتفاق كعثرة حوكمية في طريق الفترة الانتقالية هو الأذكى. وأهدى السبل لذلك أن يسبق انعقادها توافر مختصين على دراسة تحيط بالاتفاق من كل جوانبه نصاً وتطبيقاً لبيان ما يبقى منه وما لا يبقى. وتكون هذه الدراسة بمثابة حجة لإجراء التعديل على الاتفاق من فوق بينة. والمطلب هنا هو كسب العقول للتعديل بالحسنى حتى بين الحركات الموقعة المتعصبة دون المساس بالاتفاق. فإن لم ترض بالتعديل من فوق الحجة قبلته بضغط الرأي العام الذي سعينا مخلصين لإشراكه في نازلة من نازلات الوطن والثورة.
ومما يقوى العقيدة في كسب العقول لهذا للاتفاق أن بين إشراقات الورشة التي تأسرك حقاً النقاش الحميم لأوراقها الذي أزهر من شباب جاء من كل فج في البلد. كان حسهم بالسودان والنازلة مسؤولاً مهما قلت عن حججهم. كانوا حيث ينبغي لهم. وكانوا يعلمون ذلك.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.