في نبيل أديب من المسيح شيء لله
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
أنشر الكلمة أدناه عن نبيل أديب للمرة الثالثة. فرأيت اليسار ومن لف لفه نعاه بعد سفره لمصر في زفة الأرادلة، كما ساغ لهم تسميتها، بمحفوظاته الأولية عن السقوط الرأسي. والدفاع عن نبيل عن هذه السقطة دونه خرط القتاد. ناهيك عن خروجه خصماً لجوجاً للجنة تفكيك التمكين بينما يرافع موكلاً عن بعض المتضررين عنها. ولكن أردت بإعادة نشر الكلمة نزع فتيل العلو الأخلاقي والسياسي الذي يزعمون جدلاً. فليس من سقوط للقاع كما يقولون لم يكونوا المتهم الأول فيه. وليس من نازلة باليسار لم يشمروا لها حتى وقعت ليتنفسوا الصعداء “يبرجون” في عرصاتها شباعاً بطاناً.
وكنت أعدت نشر الكلمة في مناسبة استيلاء حكومة الانقلاب على دار لجنة التحقيق في جريمة فض الاعتصام. فصعقتني العادية التي تعاملت بها الدوائر الثورية مع عدوان الانقلابيين الفاضح على إرشيف حيثيات وزرهم في وضح النهار. لم أسمع احتجاجاً، ولا نأمة منه، كأن هذا الاستيلاء كان قدراً لا راد لقضائه. بل ربما انتظرته جماعات منا كانت اعتزلت اللجنة جزافاً وتركتها تذوي على غصنها.
لم يحتج سوى نبيل أديب رئيس لجنة التحقيق. وحين قال إن الانقلابيين احتلوا الدار إلا ان مفتاح خزائن الملفات معه صار هدفاً لطرفة: “سرقو الصندوق يا مهمد لكن مفتاحو معاي”
أعرف أن قطاعات كبيرة من الثوريين رمت طوبة لجنة التحقيق لأسباب أكثرها مما ليس للجنة يد فيها كما كتبت في مرة أخرى. ولكن مهما يكن من أمر فليس بوسع أي لجنة منتظرة مظنون فيها الكفاءة والحسم في التحقيق في فض الاعتصام أن تباشر عملها بغير ما تراكم للجنة نبيل مهما كان الرأي فيها. ناهيك من طأطأتنا لجماعة أخذت العدالة بيدها المسلحة، وبرأت نفسها بيدها القوية بإيقاف التحقيق في جرائمها عنوة، وبالاستيلاء على حيثيات إدانتها. ولو قدر الانقلابيون أن اللجنة قد بلغت من العزلة عتيا حتى أنه لا بواك عليها متي فرتقوا حافلها فقد أحسنوا التقدير.
كنت أزور المرحوم ماجد بوب في سان فرانسيسكو فلقيت عنده المرحومة فاطمة أحمد إبراهيم. وقضينا شطراً من الليل تحكي لنا عن شقائها بعد ثورة ١٩٨٥ تقاضي قتلة زوجها الشفيع أحمد الشيخ، وتبحث عن قبره المجهول.
وأشقى ما سمعته منها اعتزال رفاقها في الحزب الشيوعي لها كأن فداء زوجها للحزب والشعب شأن عائلي. ووجدت في محنة فاطمة مصداقاً لرأي عن الفداء والسياسة كنت انميه في ذهني منذ حين وهو “الاقتصاد السياسي للاستشهاد”. ومفاده أن للحركة السياسية من الشهيد الصيت ولأسرته العظم واللحم والنفقات المترتبة. وقدمت ورقة بالمعني إلى الجمعية الأنثروبولوجية الأمريكية عنوانها “أنتقوني الخرطوم”. وأنتقوني هي بطلة مسرحية إغريقية تلتمس من أخيها الملك دفن أخيها القتيل ولا مجيب.
ولم أجد تطبيقاً لمفهومي عن الاقتصاد السياسي للاستشهاد مثل ما رأيت من قحت حيال شهداء ثورة ٢٠١٨. فلا أعرف أن عاد لي وخم ليلتي مع فاطمة مثل سماعي قرار مجلس الانتقالي باستدعاء الأستاذ نبيل أديب لمساءلته عن سير عملية التحقيق في مقتل اعتصام القيادة، ومطالبته بتحديد سقف زمني لإنهاء عمله. وهذه حركة جبانة أرادت بها الحكومة ستر مؤخرتها.
وكان الأوفق أن تنادي نبيلاً لتعتذر له عن “طناشها” عن اللجنة مما شكا منه لطوب الأرض. فبدأ نبيل من يومه الأول بالشكوى من قيام اللجنة بغير مقر ولا طاقم سكرتارية ولا معدات. وشكا من عدم تفرغ أعضاء اللجنة. فهو نفسه عليه تدبير معاشه كيفما اتفق. وشكا من عجز الحكومة إلى يومنا عن توفير اختصاصيين في الفيديو لكي يحسنوا تعريف اللجنة بما توافر لها منه حتى يكون بينة مستحقة للعرض. فبهذا وحده تجتاز الأدلة اختبار الشك المعقول أمام قاض وهيئة دفاع متربصة. وأضان الحامل طرشاء.
ولم أر من الحكومة شفقة باللجنة وهي في خضم المعاناة. بل تركتها تأكل نارها من شباب لم تراجعه قحت من موقع مسؤوليتها السياسية حول توقعاته المتعجلة من لجنة تحقيق معلوم مهنياً أنها لطويلة. فليس لمدع مثل نبيل أن يعجل بقضية يضرب الخرق بيناتها. فلن تصمد في المحكمة. كان ذلك تبعة قحت والشباب يزرزرون اللجنة مغلوبين مهتاجين.
ووسط هذه العزلة (حتى لا نقول ما هو أفظع عن التخوين) آثر عضوين منها السلامة وغادرا. وأخذت في هذا الباب على السيد رئيس الوزراء يزور بيوتاً للشهداء عز عليه خلالها اصطحاب لجنة التحقيق ليتحمل أمامهم بشجاعة قسطه من بطء إجراءاتها. وآثرها زيارة حق خاص للوجاهة لا للمساءلة أمام ثوريين. ولا أعرف مما يصطبر عليه نبيل مثل الطعن فيه للحد الذي أرادت جماعة نزع التحقيق منه والدفع به لساحة العدل الدولية.
فلا أعرف مثل نبيل من وطّن العدالة في الوطن خلال ثلاثين عاماً لم يتأخر مكتبه عن دعوة الداعي من مظلومي الإنقاذ بما فيهم الفريق قوش.
وإهمال الدولة لمقابلة مستحقات أسر وشهداء ضحايا ثورة ديسمبر أوجع. وهذا بعض ما شمله مفهومي للاقتصاد السياسي للاستشهاد. فليس من عادة الدولة عندنا كذلك العناية بالضحايا الذين جعلوا وجودها ممكناً. فوقفت باكراً على تظلم ضحايا ثورة ١٩٢٤ من انصراف دولة الاستقلال عنهم. وقس على ذلك. وميزتُ الإنقاذ بإنشاء منظمة الشهيد لضحايا فتونتها السياسية. وعلمت من قريبين منها مع ذلك أن المنظمة بنضوره وعرفنا دورها.
والتمست في أول الثورة أن تضع الدولة يدها على المنظمة، وتفتشها، وتحسن هيكلتها وتمويلها لتعني لا بضحايا ثورة ديسمبر، بل بكل شهيد احتسب نفسه لقضية وطنية اختلفنا معها أو اتفقنا. وعنيت بذلك دبابي الجنوب. ولم أعد أسمع بأي مشروع للدولة طرق هذه المسألة اتصل بمنظمة الشهيد أو لم يتصل.
ويعفن وينشم. فاستمعت إلى ممثل لأسر ضحايا الثورة وعلى التلفزيون ينعى على الدولة إهمالها علاج جرحى الثورة. ولم يكن يمضغ القول. كان يزبد غضباً. ومن جهة أخرى خرجت من أسر الضحايا من ألجأتها الحاجة لطلب المساعدة من أهل الخير. فناشدت أم مصاب في الثورة على جريدة التيار الخيرين مد يد المساعدة. فابنها كان ضمن المفقودين. وعاد مذهولاً بينما هو العائل الوحيد. وفقد ركشته خلال التظاهرات.
بدا لي أن دم شهيديّ ٢٩ رمضان معلق بالحكومة بشكل خاص. فقد كان إفطارهم الرمضاني تذكيراً شديد اللهجة للحكومة لتفيق من “طيارة” الحكم وطنافسه. فمن الواضح أن الحاكمين أخذوا لذائذه واستدبروا شروره. فهم ورثة وظيفة عامة دبجتها الإنقاذ بالامتيازات حد الكفر بالخالق. ولم نسمع من الحكومة تفكيكاً للوظيفة العامة ضمن ما يجري لإزالة التمكين.
فلا أدرى كيف وفرت الدولة لأي من رجالها ونسائها الحاليين بيتاً بينما بخلت عليه بلجنة نبيل في أول أيامها. ولا أدرى كيف ظلوا يتمتعون بميزات الوظيفة (والشكوى مع ذلك من بؤس عائدها) ويبخلون على لجنة أديب بمعدات لا يكون الادعاء في القضية بدونها، وبمال يكفل تفرغ طاقمها. بل صار مكتب رئيس الوزراء هو الخبر البيروقراطي الرائج في الوسائط: فأجوره دولارية، وسكرتيرة طالعة وآخر داخل. واحتل الخبر المانشيت: ذهاب فلانة من مكتب حمدوك خسارة كبيرة. أكلت الثورة المضادة لحمنا
You all are an embarrassment
.لو كنت مكان نبيل لمضيت البي استدعاء مجلس الوزراء واستقالتي في جيبي. ولكن هذا أنا ممن تعتريه الغضبة المضرية. ولكن في نبيل من المسيح شيء لله. إن سعته لحمل صليب أخطائنا عنا استثنائية.