اتفاق سلام جوبا: ثقافة الكهوف (1-2)
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
يا هداكم الله أقروا نص اتفاق جوبا تكسبوا ثوباً من الله في الوطن
(قال قائد في الجبهة الثورية لو أطْلَعنا من يريدون تعديل اتفاق جوبا على ما كرهوه منه لتعديله. وأصاب لأنه ربما لم يقرأ لأحد نادى بتعديل الاتفاق (أو حتى الإلغاء) على بينة اطلاع حفي بالنص. انعقدت الندوات التي بلا نهاية لمناقشة الاتفاق وغلب عليها التحليق الغاضب (أو السعيد) فوق النص. ولما سمعت بأن الفريق الكباشي سافر لجوبا ليحضر مؤتمر سينعقد لمناقشة الاتفاق قلت: “إن شاء يكون قرآه المرة دي”. فكان الكباشي هاجم يوماً مذكرة مشتركة بين حمدوك والحلو وثقت لمطلب فصل الدين عن الدولة. وفصل الدين عن الدولة “سعر سوق” في اتفاق جوبا. بل قال الكباشي إن وعد حمدوك للحلو بفصل الدين عن الدولة هو وعد من لا يملك لمن لا يستحق. فأنظر جراءة الجاهل على الحق.
وهذه كلمة تحاول أن تلتمس طريقاً لتعديلات في الاتفاق فيما دعوته “تخسيس” الاتفاق”
سيدخل اتفاق سلام جوبا (أكتوبر 2020) تاريخ عهودنا في السودان كالاتفاق السياسي المعيب الأكبر. ولم يقتصر عيبه على مفهومه فحسب بل ضرب صياغته أيضاً. فجاء إليه، وهو الذي انعقد لتسوية حرب العقدين بين الحكومة السودانية ومسلحي دارفور، حلفاء سياسيون للمسلحين لم يرفع أي منهم السلاح أبداً. واختلقوا لهم في الاتفاق ما عُرف ب”المسارات” لرد مظلومية مناطقهم التي يمثلونها. وبلغ عيب الاتفاق حداً سخريا لا تنتظره في عهد سلام يحقن الدماء مثل القول: ” تلتزم الإدارة الأهلية في الشرق (شرق السودان) على حث المواطنين وتشجيعهم على التعليم” (مسار الشرق 23). وهذا مما قد تستكثره حتى على برنامج انتخابي لمرشح لانتخابات مجلس محلي.
أما أكثر العيب مما جاء للاتفاق ممن عارضوه بصورة أخرى. فليس من عادة السياسة عند كثير منا العكوف على نص العهود مثل اتفاق سلام جوبا، والإحاطة به، وتمييز حقه من باطله عن بينة قبولاً ورفضاً. ففي الحالين تغلب سياسة الولاء أو المعارضة على ما عداها في تقييم العهود وتقويمها. فإذا عارضت حللت لك المعارضة ما لا يحل في الحكم على نص العهد جزافاً. وتَعْلق عندنا في هذا المعنى عبارة قديمة منسوبة لإسماعيل الأزهري، زعيم الحركة الوطنية وأول رئيس وزراء سوداني، قال فيها عن مقاطعته لجمعية نيابية من صنع الإنجليز: “سنقاطعها ولو جاءت مبرأة من كل عيب”.
فتجد الحزب الشيوعي الذي كان أول من اعترض على الاتفاق في دورة لجنته المركزية في نوفمبر 2020، أخذ من الاتفاق ما يعزز معارضته للحكومة الانتقالية التي كانت طرفاً في الاتفاق. فأصاب في نقده للمادة في الاتفاق التي تقضي بأن يعلو على الوثيقة الدستورية للثورة (أغسطس 2019)، التي نشأ بموجبها، متى تعارض مع جانب منها. ولكنه أضرب كلية أن يميز الوثيقة، كداعية للعلمانية، بأنها الأولى في فضائنا الدستوري التي قضت بفصل الدين عن الدولة.
وقدم الحزب، من الجهة الأخرى، مشروعاً بديلاً للاتفاق سماه “الحل الجذري” لم يخرج عما ورد فيه. فحتى تسليم المطلوبين من قادة النظام القديم للمحكمة الجنائية الذي نادى به الحزب في حله الجذري كان مما خصص له الاتفاق فصلاً مستقلاً بعنوان “المحكمة الجنائية الدولية”. وطالب الحزب في إطار حله الجذري بتعمير القرى لعودة النازحين واللاجئين لها ورد أراضيهم التي نزعها غاصبون خلال الحرب. وهي مسائل، إن ظنها الشيوعي مما أهمله الاتفاق، نجده طرقها فصلاً فصلا: للعدالة الانتقالية، والتعويضات وجبر الضرر للمتأثرين بالحرب من نازحين ولاجئين، وتنمية قطاع الرحل، واستعادة الأرض المغتصبة لأهلها.
لم تكن عيوب اتفاق جوبا خافية من يومها الأول على أحد. وما غضت الحكومة الانتقالية الطرف عنها إلا عشماً في خبر سعيد بأي صورة عن السلام لتشيع التفاؤل في زمن عصيب. فقرر إبراهيم الشيخ، رئيس المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير، باكراً أن فشلاً أحدق بالمفاوضات. فقال باستحالة تحقيق السلام بالشكل الذي رآه في جوبا التي عاد منها غاضباً إلى الخرطوم. ولكيلا يبدو إبراهيم كمن يمطر على الخبر السعيد المنتظر عن الاتفاق قال إن ذلك رأيه الشخصي ولا علاقة له بقوى الحرية والتغيير على أنه لن يتحمل مسؤولية الآخرين. وأثار بشكل خاص كلفة السلام في اتفاق أسرف في خلق صناديق الاعمار والمفوضيات بغير حاضنة دولية واحدة دقت صدرها لتمويل أي من بنوده. فانطبق على الاتفاق بذلك التبذير ما حذر منه توماس جيفرسون بقوله “احصل على المال قبل أن تنفقه”. وجرى التوقيع على الاتفاق واحتفلت به الحكومة الانتقالية وتعرف أنه معيب مستحيل التنفيذ.
وكانت ال” لامبدئية” من معارضي الاتفاق الأشداء باباً كبيراً في تعييبه. فلا نعرف من عارض “مسار الشرق” في الاتفاق مثل محمد الأمين ترك، رئيس مجلس نظارات الشرق وعمودياته المستقلة. فعبأ أهله في الشرق بقوة لإلغائه بقطع الطرق من ميناء بورتسودان إلى بقية القطر. وهو “التتريس” الذي طعن في الحكومة الانتقالية طعناً أغرى العسكريين بالانقلاب عليها في 25 أكتوبر 2021. ومما يستغرب، والحال هذه، أن يعود ترك، الذي صار نائباً لرئيس قوى الحرية والتغيير- الكتلة الديمقراطية، من ورشة انعقدت بالقاهرة منذ أيام لمعارضي الاتفاق الإطاري بين قوى الحرية والتغيير والعسكريين (ديسمبر 2022) بنفس نص مسار الشرق في اتفاق جوبا. فتمسكت ورشة القاهرة بتنفيذ الاتفاق بما هو عليه على أن ينعقد مؤتمر لاحق لأهل شرق السودان لمناقشة مسألة تهميشهم معاً. وما جاء به ترك من القاهرة هو ما جاء في المواد 34-36 من “مسار الشرق” من وثيقة جوبا حذو النعل بالنعل. ولا نعتقد بأن مثل هذه التحولات الجسيمة لقائد مرموق من معارضة الاتفاق بشراسة إلى قبوله مذعناً ستكون مما يرفع من عوار الاتفاق. فلن يظن من وقف معه في أيام ابتلاء معارضة الاتفاق خيراً لا به ولا بالاتفاق وهم يحدسون عما وراء الأكمة.