فض الاشتباك

0 93

كتب: محمد فاروق سليمان 

 

-محاولة لفهم الاشتباك المدني المعاصر كتب في يوليو ٢٠٢٢. البوست كاملا في التعليقات. 

(١)

“إذا كانت الوحدة حول المستقبل شرط التغيير يكون لزامًا التوصل لفهم مشترك عن الماضي القريب، لكن أي فهم ممكن بين أطراف اختلفت حتى خاضت في دماء وأعراض بعض؟ لم تكن جرائم الدولة بسيطة ولا تمت بدون تواطؤ ولو بالسكوت، ومحاولة فهم دوافع كل طرف قد تجدد الصراع وتزكي العداوة. ربما من الأفضل البداية بالتاريخ الأبعد قليلًا في محاولة لفهم كيف وصلنا أصلًا للحظة الثورة، قبل أن نتفق على فهم كيف فقدناها.”

علاء عبد الفتاح*

(٢)

في محاولة لفهم الاشتباك المدني المعاصر، كان من المهم فهم بذل ثلاثة اجيال تعاقبت طوال ثلاثة عقود هي سنوات حكم الانقاذ؛ تشكل وعي هذه الاجيال من خلال عملية إستقطاب حاد؛ هي عصارة تجربة الحركة السياسية السودانية في صراعها “الحدي”، وليست تجربة الجبهة الاسلامية لوحدها؛ والتي تحولت للاعب رئيس وفق طبيعة أيدولوجيا الدولة المركزية لدولة ما بعد الاستعمار، منذ اكتوبر ٦٤، وفرضت صعود خطاب الاسلام المدرسي، بمعنى الاسلام الذي شكل مناهج التعليم عندنا كسردية رسمية للدولة، كخطاب سياسي، على ساحة صراع وطني عانى فراغ حقيقي في تعريف الهوية الوطنية وبالتالي تحديد المصلحة العامة وقدرة الحركة الوطنية في التوافق القانوني والدستوري، والتي تتيح الالتزام بالديمقراطية وسيادة القانون.

(٣)

من المهم الوعي بطبيعة دولة “التركيب” كما يقول المفكر السوداني ابو القاسم حاج حمد، والتي ورثناها عن المستعمر، وبعيدا عن شروط تواجدنا التاريخي كسودانيين وسودانيات مع بعض في هذا الحيز الجغرافي، فقد تم تركيب الحداثة والدولة الحديثة ومؤسساتها من خلال المستعمر، وهو ما شكل وعي ومزاج النخبة الوطنية السودانية (وربما كل النخب في دولة ما بعد الاستعمار في دول اخرى)، وقد شكل وجود الدولة هكذا ظاهرة سياسية غاية الهشاشة؛ ابرز ملامحها التمادي في نقض العهود والمواثيق، كما يقول أبيل الير؛ إذ لم تطلع الطبقة السياسية الوطنية بواجبات جدية في صناعة الدولة، وعلاقات المجتمع الحديث لم تاتي نتاج صراع اجتماعي على الارض، والعقيدة الوطنية لجهاز الخدمة النظامية والمدنية البيروقراطي اتت كاستمرار لارث المستعمر، قمة مجدها في تلك الفترات الاقرب لعهده في الانضباط والكفاءة!،

(٤)

وبعيدا عن تشوهات مؤسسات الدولة الحديثة وتمظهرات الحداثة المركبة تركيب في مجتمعاتنا، شكل غياب المشروع الوطني وتعريف المصلحة العامة للسودانيين، وبالتالي عدم تعاقدهم اجتماعيا على شكل الدولة او سلطاتها هو اساس هذه الظاهرة السياسية. فصارت الدولة الحديثة ومؤسساتها اداة للقهر السياسي والاقصاء في دولة ذات طبيعة مركزية وطبقة سياسية كسولة غير مبدعة لم تنتج نمط للاصالة حتى في تحقيق امتيازاتها؛ اقتاتت على التقليد والتبعية حتى عندما ترفع شعارات التحرر في وجه “تخلف” مجتمعاتها، فلا تعرف هل تهتف الجماهير ضد نفسها عندما تقول لا للرجعية!

(٥)

وصارت هذه التصورات للقوى السياسية بديل عن الاجماع الوطني والعقد الاجتماعي، تصورات حكمتها ايدولوجيا مجلوبة ولم تحتكم للثقافة الموجودة، وفي ظل استحالة ان يكون صراع الحد الاعلى عند القوى السياسية ديمقراطيا، اعتمدت الحركة السياسية تعزيز تناقضات المجتمع، من خلال اغفال واقعه المتعدد والمتنوع، في توظيف مريع لتفوق سلطات الدولة الحديثة وادواتها على المجتمعات حتى صار التناقض بين السلطة السياسية وهذه المجتمعات مهددا اولا لاستقلال الإرادة الوطنية وعدم تراضي الناس على سلطة الدولة، واستمرار حالة الانحلال السياسي التي تهدد بفض السامر على نحو ما تم عند استقلال جنوب السودان.

(٦)

شكلت الانقاذ عصارة التجربة السياسية السودانية القديمة وقمتها، وان بذت غيرها فذلك عن عجز الاخرين في مجاراتها، وليس لمخالفتهم لها في الطبع والطبيعة، فنسق ممارسة السلطة طوال تاريخ الدولة الوطنية لم يختلف كيفا حتى في ظل حكومات منتخبة عن متلازمتي الهيمنة والاختلال كتعبير عن افق النخبة السودانية المحدود بهندسة امتيازاته هو، في السلطة، وليست هندسة امتيازات المواطنة في الدولة.

(٧)

ثلاث اجيال اتيح لها ان ترى السودان القديم وكل اشكالات الممارسة السياسية القديمة في حكم الانقاذ لثلاث عقود، فالجيل الذي انتمي اليه شهد تعثر الديمقراطية والتربص بها ايضا، من قبل الجميع، والذي شكل انقلاب الجبهة الاسلامية في ٣٠ يونيو الرهان الفائز في سباق التربص بالديمقراطية الخديجة وقتها، ليشهد جيلنا اشد سنوات الاستقطاب الايدولوجي وقدرته على تعزيز عنف الدولة وقهرها بدماء جديدة، مؤمنة هي نفسها بنبل مقاصدها معززة خطابها بالبذل، ليتم تعزيز معين الدماء في الدولة من الطرفين، فلم يكن بسط سلطة الانقاذ في عشريتها الاولى دعة من العيش على نحو ما شهدته الاجيال المتاخرة، كما لم تكن مواجهتها نزهة تنتهي بامجاد في السوشيالميديا، فقد كان معسكري السلطة ومناوئيها في شقاء وقسوة مخاض انتهى بانقسامات في الطرفين!

(٨)

اللافت في العشرية الثانية هو انقسام معسكر السلطة نفسه وخروج عراب النظام على تلاميذه، ولكن ايضا لم تسلم جبهة مقاومة النظام من الانقسام فقد انتهى انقسام الناصر الى اتفاقية سلام مع النظام الحاكم في الخرطوم، كما بدت الصراعات تضج داخل التجمع الوطني التحالف الاوسع والوحيد وقتها للمعارضة، وخلاف خروج حزب الامة في مؤتمر مصوع ٢٠٠٠، عن التجمع الوطني اثر توقيعه منفردا على اتفاق جيبوتي اواخر العام ٩٩، وقعت الحركة الشعبية على بروتوكول ميشاكوس في يوليو ٢٠٠٢، لتنتهي حقيقة الاشتباك حول شرعية نظام الانقاذ الذي انقلب على نظام ديمقراطي لم يتثنى به الوصول لاتفاق سلام لانهاء الحرب الاهلية الاطول في تاريخ دولة ما بعد الاستعمار.

(٩)

لابناء وبنات جيلي من المشتبكين وفي جانبي الصراع ايام الانقاذ وسيرتها الاولى، اصبح الامر كارثياً: فالدماء بين الطرفين كانت وقود لحرب بدت عبثية بكيف انتهت! وهنا استوت خيبة رفاق بشير الطيب وسليم ابوبكر والتاية ابو عاقلة، وخيبة اخوان عَلِي عبد الفتاح وحسين حسن حسين وابودجانة. ولجيل خاض نقاش فكري جاد داخل الجامعات وبعيدا عن احداث العنف الطلابي داخل سوح الجامعات كنا ننتهي بعد النقاشات اما الى ادغال الحرب في الجنوب تحت دعاوي الجهاد لغريمنا ضد من حملو عليه السلاح، او الى حراسات بيوت الاشباح حيث نخوض نحن حربا اخرى ودون سلاح مع نفس الغريم، وكثيرا ما فوت اي من الطرفين امتحانات الجامعة وتحصيل الشهادة التي انتظرها ذوي ايٍ منا!

(١٠)

اكتسب جيلي ومن الطرفين حصانة برايي من خفة الساسة وتقلبات السياسة، واصبحنا نحن الجيل الاكثر اندفاعاً في بدايات حياتنا، الاكثر روية الآن، والاكثر تحررا من غواية السلطة، وعل الالام والحزن والخيبة التي تركها عندنا طبيعة الصراع الحدي للحركة السياسية مبكرا، قد جعلتنا اقل اقتناعا بهذه الحدية حقيقةً، واكثر نقدا للتجربة السياسية واقل اندفاعا للقبول بها والعمل وفق شروطها، عكس الجيل الذي يلينا والذي اعاد الحياة للمارسة السياسية القديمة، وبكل خفتها، ومع تخفيف القبضة الامنية وفق شروط جديدة كثيرة لكن اهمها خيبة الاسلاميين انفسهم من حرب الالهة!

(١١)

لينشأ جيل لا اقول انتهازي لكن مدخله للصراع السياسي كان مقلوبا! فبينما وجددت اجيال جديدة من الاسلاميين انتها تحمل ارث تجربة عليها الدفاع عنها حتى وان لم تولغ فيها، وجدت اجيال ناهضة المجد في صراع لم تخضه حقيقة، فاصبحت هوية هذا الجيل مقسومة داخليا باكثر مما تبدوا محددة ظاهريا: اسلاميين غير معنيين ببهاء السلطة لهول ما سمعوا عن كيف وصلوا اليها، وصاروا في حنينهم الى بعث مشروعهم الحضاري اغرب عن السلطة واقرب لمن حسبوهم بدريين من “ابطال” الميل اربعين، وعند الفئة منهم التي ظل ولاءها للسلطة لا للمشروع ظل عداءهم لهؤلاء الذين يذكرونهم بانهم من بني امية اكثر من عدائهم للعلمانيين ومن اعتبروا انفسهم ديمقراطيين، فنشأ جيل من بين هؤلاء المناضلين الجدد، اكثر اعتدادا بالسلطة واكثر رخاوة فكرياً (ليس بشكل مطلق طبعا) بحكم انتهاء شروط دولة المشروع الحضاري موضوعيا. وسقوط شجرته. ودنو قطف ثمارها، فطن هذ الجيل انه صاحبها!

(١٢)

الجيل الذي بدأ وعيه يتشكل منذ سبتمبر ٢٠١٣، وهو الجيل الاخير من هذه الاجيال الثلاثة، تفتح وعيه عل التقاء مهم بين الجيلين الذين سبقوه فاتاح هذا له انفتاحا مهم على التجربة السياسية السودانية بشكل اكثر شمولا من خلال حصادها هذا الذي اشرت اليه في جيلين من الشباب، واظنه قد اخذ من الجميع ما يلائم شروط عالم اليوم، لكنه لم ينتبه كثيرا للفرص في المستقبل الا من خلال موقف حدي اقرب في مظهره للحقبة الاولى من سنوات الانقاذ، وهذا ما يقف عقبة امام مخاطبة المستقبل باستقبال الحياة الديمقراطية، واظن في موقفه من الاحزاب جميعها اكثر استفزازا لها لاصلاح حالها، واكثر عدلا في تحميلها عبء حياته الان. وفي موقفه من الجيش يبدوا اكثر تحديا واعتدادا بالقوة والتكتيكات العسكرية نفسها، وهي مساحة سينهزم فيها لاحقا دون تردد مني في قول هذا، أو ستهزم سلمية حراك الجماهير وستضطر لاعتماد العنف.

(١٣)

هذا الاشتباك مالم نخلص فيه الى سردية موحدة، لن تصمد امامه اي من دعاوي تزييف الوقايع التي سيستند اليها الاستبداد، في ظل عداءه الطبيعي مع الحقايق كسيناريو وحيد للخير عنده، فالانسان وحتى المستبد يبحث عن سيناريو الخير خاصته، ولعل بذرة الاستبداد الاولى في الوصاية؛ هي امتلاك مطلق الحقيقة ومطلق الخير، والذي يجعل من شره خيرا، في مخيلة المستبد القديم على نحو ما نرى من اصوات بعض اسلاميي السلطة في تربصهم بالانتقال، وعلى نحو من يدافع عن نفسه ممن افشل هذا الانتقال من مستبدي “قحت”.

“لم اتعرض هنا للصراع في دارفور والموقف من مسارات الحرب والسياسة هناك ابتداءا بانفجار النزاع المسلح بداية الالفينات وانتهاءا باتفاق جوبا في اكتوبر ٢٠٢١، كحصاد لم يختلف عن توقيع الوثيقة الدستورية في اغسطس ٢٠١٩، في تهديد كسب ثورة ديسمبر، كنماذج لاتفاقيات السلطة، لكن اشير هنا لموقع الصديق عبد الواحد محمد نور كواحد من ابناء الجيل الاول في عشريات الانقاذ الثلاث، يمكن من خلال مواقفه فهم نزوع هذا الجيل نحو قضايا التأسيس”

____________________________

*الاقتباس من مقال للمناضل المصري المعتقل الان علاء عبد الفتاح حول مسارات الوحدة نشر بمدى مصر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.