اتفاق سلام جوبا: ثقافة الكهوف (2-2)

0 51

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

“اقرو قر ينفخكم”

(قال قائد في الجبهة الثورية لو أطلعنا من يريدون تعديل اتفاق جوبا على ما كرهوه منه لتعديله. وأصاب لأنه ربما لم يقرأ لأحد نادى بتعديل الاتفاق (أو حتى الإلغاء) على بينة اطلاع حفي بالنص. انعقدت الندوات التي بلا نهاية لمناقشة الاتفاق وغلب عليها التحليق الغاضب (أو السعيد) فوق النص. ولما سمعت بأن الفريق الكباشي سافر لجوبا ليحضر مؤتمر سينعقد لمناقشة الاتفاق قلت: “إن شاء يكون قرآه المرة دي”. فكان الكباشي هاجم يوماً مذكرة مشتركة بين حمدوك والحلو وثقت لمطلب فصل الدين عن الدولة. وفصل الدين عن الدولة “سعر سوق” في اتفاق جوبا. بل قال الكباشي إن وعد حمدوك للحلو بفصل الدين عن الدولة هو وعد من لا يملك لمن لا يستحق. فأنظر جراءة الجاهل على الحق.

 

وأول هذه الحيثيات قصر الاتفاق على حملة السلاح حيث هم في أقاليمهم. وعليه صح شطب اتفاقات المسارات منه جملة وتفصيلاً في انتظار مؤتمر دستوري يكفل لأقاليم السودان، التي لم تتأثر بالحرب، أن تدلي بدلوها عن هامشيتها.

ونحتاج لتحديد المصطلح في تعريف المنتفع من إجراءات جبر الضرر أو التعويض. ونبدأ بتعريف من هي الدافورية (أو هو) للتمتع بما ورد في الاتفاق من تمييز إيجابي. فليس في تقاليدنا الإدارية أعراف لتعيين منشأ الفرد منا بعد شهادة الميلاد مثل موقع تسجيل الواحد منا للانتخابات مثلاً. فاتفاق دارفور مثلاً حجز لطلابها ١٥٪ في الكليات العلمية والطبية والهندسية في كل جامعات السودان بعد حجز ٥٠٪ لهم في الجامعات بدافور. فما هو تعريف الدارفوري (ة) القاطع الذي يمنع التبذل ويحفظ الحق لمستحقه؟ فليس كل دارفوري (ة) بإطلاق تأثر بالحرب. فكثير منهم مثلاً عاش في أقاليم لم تطالها حرب أبداً.

ومما نحتاج إلى التدقيق فيه أيضاً هل هذا الاتفاق مع الحكومة الانتقالية أم أنه مع الحكومة السودانية بعلى الإطلاق؟ فجاء في اتفاق دارفور أن يتمتع الطالب منها بإعفاء الرسوم وغيرها لمدة ١٠ سنوات تبدأ من توقيع الاتفاق. وهذا بالطبع عهد متعد لحكومات ما بعد الانتقالية التي في الغيب. وقد يمتد الإعفاء إلى ١٤ سنة وأكثر لأن الطالب الذي دخل الجامعة في السنة العاشرة، سنة نهاية العهد، سيظل يتمتع بالإعفاء حتى تخرجه.

ونحتاج إلى ضبط المعادلة بين مركز الوطن ورد مظلومية الهامش حول التوزيع العاجل للثروة. فبدا من اتفاق جوبا أقله غموض من جهة ما لمؤسسات الحكومة الاتحادية وما للمفوضيات التي أراد بها الاتفاق ضبط موارد الدولة. فستقوم بالقوامة على المال العام، بمقتضى الاتفاقية، هيئتان. الهيئة الأولى هي الصندوق القومي للعائدات (المادة ٢٢ من الاتفاق). وستودع فيه “كافة الإيرادات والعائدات المالية القومية ويُنظم بالقانون ويكون هو المؤسسة الوحيدة لإيداع العائدات”. أما الهيئة الثانية فهي “المفوضية القومية لقسمة وتخصيص ومراقبة الموارد والإيرادات المالية” (المادة ٢٣). فلا الصندوق القومي للعائدات ولا المفوضية بجديدين على مثل هذه الاتفاقات القومية. فسبق إليهما اتفاق السلام الشامل بين حكومة الإنقاذ والحركة الشعبية في ٢٠٠٥. ولكنه اختلف مع اتفاق جوبا في أمر هام. فاتفاق السلام الشامل جعل لوزارة المالية الاتحادية إدارة الصندوق بينما صمت اتفاق جوبا عن ذكر وزارة المالية. كما صمت عن دور المؤسسة التشريعية في تخصيص الموارد ومراقبة صرفها كما لم تصمت اتفاقية السلام الشامل. وهذا الصمت من اتفاق جوبا عن ذكر وزارة المالية الاتحادية والمجلس التشريعي الاتحادي غريب بالنظر إلى أنه يكاد نقل ترتيباته لموارد المال العام وانفاقه من اتفاقية السلام الشامل نقلاً.

ومن بين ما احتاج الاتفاق إلى ضبطه فيه هو العلاقة بين الديمقراطية والمحاصصة. فلن يخفى حتى على القارئ المتعجل للاتفاق الحشو فيه حتى شمل تعيين ممثلين عن الحركات المسلحة الموقعة على الاتفاق في إدارة العاصمة القومية. وهكذا لم تعتبر أطراف الاتفاق أن للعاصمة أهلاً من سائر السودان ولن يقبلوا بحكومة عليهم مساءلة أمام غيرهم لا هم.

كما صح أن تتنازل الحركات طوعاً عن نسبها المبالغ فيها في محاصصة السلطة. فتخضع المناصب التي حظيت بها بالاتفاق للانتخابات العامة التي تطالب هي نفسها بقيامها على النطاق الوطني. فجاء في مسار دارفور أن لمكونات المسار 40%، وللحكومة الانتقالية 30%، وللحركات الأخرى الموقعة 10%، ولأصحاب المصلحة 20%. ولا يعرف المرء من هم “أصحاب المصلحة” وكيف سيجري تمثيلهم في أروقة السلطة. وقد يتساءل المرء ما الذي سيغري جيش تحرير السودان-عبد الواحد ركوب قطار السلام بعد تمنع وهو يرى أطراف الاتفاق غنمت حصص الدولة لم تترك فضلة لوافد. بل لا أعرف كيف ستأتي الحركة الشعبية جناح الحلو للسلام وقد أعطى الاتفاق نيابة الوالي على جبال النوبة للحركة الشعبية-عقار التي لا وجود لها في تلك الجبال المحررة.

يكاد اتفاق جوبا يستصرخنا لما نعمله حياله وهو تخسيسه. فأكثره ورم منشأه في ثقافة الكهوف التي قال مارك ليلا، المفكر الأمريكي البارز، إنها مما تنطوي فيها الهويات الأصاغر مثل دارفور هرباً من الوطن الكبير الذي أذاقها التهميش. وربما كان إلغاء الاتفاق هو أقصر الطرق لنثبتهم على قناعة أن الكهف هو مأواهم الأخير في الوطن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.