اليوم الاول في وادي سيدنا

0 71

كتب: جعفر عباس

.

ثم جاء اليوم الموعود للسفر من كوستي الى مدرسة وادي سيدنا الثانوية (أول مدرسة ثانوية في السودان)، وفي اليوم المحدد للسفر بدأ “الغمِت”، فقد صافحني العديد من الأقارب وكانوا خلال المصافحة يحشرون مبلغا من المال في يدي “حق الطريق”- ذلك زمان كانت لنا فيه حقوق وللطريق حقوق، وفي الأفراح حقوق (مفردها حُق بفتح الحاء)، وهكذا بدأت المرحلة الثانوية وأنا من الأثرياء بعد ان صار عندي نحو 3 جنيهات
كانت أجزخانة العاصمة المثلثة هي نقطة التجمع للطلاب المتوجهين الى وادي سيدنا، وكانت الأجزخانة تلك قبالة مدرسة الخرطوم شرق الابتدائية، وهي اول مدرسة نظامية في تاريخ السودان (افتتحت في 1851) ولكن حكومة نميري باعتها لبنك البركة فشيدت عليها ما يسمى اليوم برج البركة، وكان نقل الطلاب الى المدرسة يتم بشاحنات (قندرانات) تتبع لمصلحة النقل الميكانيكي، التي كانت تدير جميع السيارات الحكومية في جميع انحاء السودان ولديها سجلات توضح مكان وجود كل سيارة وموعد إعادتها للصيانة او السحب من الخدمة، ولم يكن حتى رئيس الوزراء او رئيس مجلس السيادة يملك حق شراء دراجة من وراء ظهر النقل الميكانيكي
ونقلنا القندران عبر خور عمر (النقطة التي انطلقت منها القوات التي نفذت انقلاب مايو 1969 لنميري وصحبه) ثم “سيرو” وصولا الى وادي سيدنا، وعندما دخلنا حرم المدرسة حسبت اننا في لندن التي رأيناها في السينما، فقد كان كل شيء فيها أوربي الطابع: المباني الفخمة بالحجر والطوب الطفلي واشجار بلوط متشابكة ومسطحات خضراء، وكان المبنى الرئيسي للمدرسة على شكل حرف يو U وفي قاع الحرف مكتب الناظر ونائبه وامين الخزينة والمكتبة وقاعة المحاضرات، وفي جانب منه معامل الكيمياء والفيزياء والأحياء (حصص العلوم كانت في المختبرات وليس في غرف الدراسة العادية)، ثم استوديو الفنون التشكيلية (كانت قاعات الفنون للفخاريات والتصميم وطباعة الأقمشة في مبان أخرى).
تاريخيا كان معظم طلاب وادي سيدنا من القرويين أبناء شمال السودان (من دار جعل الى حلفا)، ومن ثم كان انبهارنا بكل شيء في وادي سيدنا، وفيها كانت تجربة معظمنا في استخدام السلم المتدرج للصعود الى طابق علوي، وفي يومنا الأول هناك تركنا الحقائب وال”بُقَج” التي أتينا بها وصرنا نطلع وننزل في السلالم الى أن فقدت اجسامنا السوائل، وكانت داخلية أبو قرجة من نصيبي، وفي الداخلية أيضا كان هناك طابق علوي يتألف من مظلة على امتداد المبنى كان ملاذا للمدخنين.
كانت الداخليات في المدرسة من الشمال الى الجنوب: جماع وأبو قرجة (ثم قاعة الطعام) والمختار والداخل وود البدوي (ولاحقا جاءت داخلية بابكر بدري)، وكانت العنابر على ثلاثة اضلاع من مبنى الداخلية بينما تم تخصيص الضلع الرابع للحمامات وأماكن الوضوء وغسل الملابس، ويتوسط كل داخلية حوش به نجيل أخضر يحظى بالري والتشذيب المنتظم، يتسع ليلا لنحو مائة سرير، وكان لكل داخلية ملعب كرة سلة وملعب كرة طائرة.
وفي يومنا الأول ذاك وضعنا امتعتنا البائسة في الدواليب ثم انطلقنا نستكشف بقية انحاء المدرسة، وبهرتنا في جزئها الشمالي ملاعب التنس وحوض السباحة الأولمبي وملعب كرة السلة الرئيسي المخصص للمنافسات الكبيرة، ثم ستة ملاعب كرة قدام مغطاة بالنجيل الأخضر ويخترقها شارع مرصوف تظلله أشجار البلوط العملاقة، وقرب النهر بستان فواكه يتبع للمدرسة وفي النهر مرفأ نادي الزوارق الذي وجدنا فيه عدة مراكب شراعية صغيرة ذات هياكل معدنية غير قابلة للغرق لأنه معبأة بغاز يجعلها في حالة طفو دائم (كنا نستغل تلك الزوارق أحيانا لسرقة البطيخ من البر الشرقي: ود رملي وما جاورها).
كان ناظر المدرسة وقتها الأستاذ أحمد سعد (تخصص كيمياء)، وحكي أنه وعندما كان ملحقا ثقافيا في سفارة السودان في لندن، (كان شديد سواد البشرة ومشلخ شايقي “لا ورا”)، كان يجلس في كافتيريا في لندن عندما اقتربت منه طفلة فابتسم لها وقال: هاي سويتي (يا حلوة)، فصاحت البنت مخاطبة أمها: he can talk (إنه يستطيع ان يتكلم)، وحكى كابتن امين زكي اميز “باك” في تاريخ الكرة السودانية انه كان مع الفريق القومي في زيارة الى بلد أوربي عندما اقترب منه طفل ومسح منديله بيد أمين ثم نظر الى المنديل ليرى ما إذا كان لون جسمه “يهد”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.