يا شقي الحال، مالك؟

0 77
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
(من ذكريات آمل في رئاسة الجمهورية عام ٢٠١٠)
استعدادتي للعودة للسودان لبدء حملتي الانتخابية لرئاسة الجمهورية قائمة على قدم وساق. ولا أملك صداً للحسرة التي تأخذ بخناقي وأنا أنزع عروقي عن هذا البلد بعد أن أقمت لربع قرن في ربوعه الفيحاء. وأكثر ما تلفحني هذه الحسرة وأنا أشلع رفوف مكتبتي أصبها في كراتين لا أعرف إن كانت ستبلغ سالمة، أو تضل في أعالي البحار.
والسودان حرب على الكتاب. لم أجد فيه أياً من الكتب التي احتجت لها خلال عطلتي الأخيرة فيه. فالكتب إما في كراتين لم تنتظم بعد في رفوف، أو أنها لم يردها من استلفها إلى المكتبة، أو حرقتها والدة شفوق في يوم كريهة أمنية. ولا ارتعب من عودتي مثل رعبي اتكفف الكتاب ولا أقع عليه.
ولعل أقسى المرابع فراقاً في هذا البلد هي المكتبة (مكتبة الاطلاع) . فهي مجتمع عجيب. وأحدث نفسي دائماً لو قيل لي كيف تريد مجتمع المستقبل (بعد تضعضع الاشتراكية) لقلت أريده مستوحياً من المكتبة. ففيها مشابه من جنة الرضوان. تشتهي كتاباً وستجده إما على رفوفها أو مستودعاتها أم سيأتيك مستلفاً من مكتبة أخرى حيث كانت. وحتى الولدان المخلدون فيها يخدمون الكتاب والقارئ خدمة جد. والمكتبة مجتمع لا وظيفة للنقود فيه إلا الغرامات لمن أخلفوا ميعاد إرجاع الكتاب. فليس في طول البلاد الأمريكية وعرضها مكاناً تبقى فيه الساعات الطوال تعصر إماكاناته عصراً ولا تدفع سنتاً إلا لتصوير ما تريد من الأوراق. شفت كيف؟ كما يقول الدكتور حسن موسى.
قالت أمي للمرحوم الطيب ابني هذا مدعي قراية. وأذكرها تنتهرني وأنا أقلب ورق الصحف والكتاب أزعجها عن خلوتها وتفكرها الصامت عن نكد الدنيا. ووجدت من فاق هواه للمكتبة هواي. ذلكم هو السفير صلاح عثمان هاشم الذي فاتح أمه عن عشقه للكتاب. فقد كان ملازماً لمكتبة الكونغرس بواشنطون العاصمة من التاسعة للخامسة يوماً بيوم. عكف على كتب روسية عن الإسلام عربها فأحسن التعريب والفهرسة وزينها بالخرائط الإيضاحية والصور. وعجبت يوماً سمعت من غثاء صفوتنا الأحوى أن الرجل “مجنون” في مناسبة خبر عن تقديمه لمحاضرة عن إيران إبان ثورة 1979. وحين تعرفت على الرجل بعد ذاك عرفت لماذا تذم مجالس الغثاء الأحوى الرجل. فالرجل هيغلي (من أتباع هيغل) الذي تلقى معارفه عنه في فرنسا خلال دراساته فوق الجامعية. وكان يصدع برأيه فيقلق مستمعه فيظن به الظنون بدلاً من العكس.
ولع صلاح بالمكتبة فاق كل ولع. قال لي إن والدته قالت له كفاك غربة يا صلاح فتعال إلى أم درمان وانفق شطر العمر الأخير في حي الهاشماب. وقال إنه قال لها: “يا والدة. شوقي لإم درمان ماله حد. ولكن هناك بواشنطون مبنى اسمه مكتبة الكونغرس لو ترحل معي ما بقيت في أمريكا يوماً واحداً.” ومات رحمه الله في وحشة من الناس وفي أنس من الكتب.
أمص حموضة بحلقي كلما نزعت كتاباً من الرف ودفعت به إلى صندوق من تلك التي ترامت أمامي وجهتها الحاوية فالبحر . يا شقي الحال مالك؟ تهجر نهر اطمئنانك إلى لجة ما لها ساحل. يا شقي الحال مالك؟ تمد يدك هنا فتساقط عليك الكتاب رطباً جنيا وتغدو إلى بلد “يجمرك” الكتاب، ويدس أنفه بين صفحاته وهو مخطوطة، ثم يصادره، ثم يحشه ويفركه: بت الكلب يا الشعيرية.
اللهم طولك يا روح. لتكن هذه رقيتك. سيجتمع عليك نفر يندمونك على هذه الرحلة المخاطرة للبلد. سيقولون لك فعلت وتركت، وكندو شنو، وانتخابات كندو، ومسكين مرشح ما بعرف قوة مؤتمر وطني (على وزن مسكين عرب ما بيعرف قوة رومان). ويبقولك في رقبتك من فرط يأسهم من إحقاق الحق. اللهم طولك يا روح!
وسيكون عزائي حكاية حدثت لي مع معلمي الأستاذ ابو زيد الجعلي في سنة ثالثة وسطى بالأميرية عطبرة. أدى فريضة الحج في ذلك العام الأستاذ حسن فريجون ناظر ثانوية عطبرة الحكومية. ودعا جماعة المعلمين إلى مائدة فطور سيتضح خطرها بعد. ولبى أستاذنا الجعلي الدعوة. ثم استعجل العودة ليكون بفصلنا في حصة اللغة العربية. وما دخل وتوهط على الكرسي حتى طرقعت بأصبعي: “فندي فندي فندي” وسألنى ماذا. قلت: “عاوز أشرب”. وانفعل أستاذي الجعلي مستنكراً مطلبي البسيط: “شوف دا بالله. أنا متين دخلت؟ خلينا فطور فريجون بما لذ وطاب عشان نجي لناس عبد الله فندي فندي فندي عاوز أشرب. تشرب ما تروى. خلينا المجلس عامر عشان قبال نقعد ناس عبد الله فندي فندي فندي عاوزين يشربو. غور أشرب”
لست ادري إن كنت استحققت هذا التقريع من معلمي. ولكن ل”عضرابة” شية فريجون (التي انتزع استاذنا منها نفسه انتزاعاً) أحكامها. وقلت لنفسي ها أنت يا شقي الحال تركت عضرابة للكتاب بأمريكا تقول يا ليل واخترت الوطن مقاماً فترفق بمن قال يا بروف يا بروف كاروشه تاكلك.
يا شقي الحال مالك؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.