في الاصلاح الامني والعسكري مرة اخرى

0 58

كتب: محمد فاروق سليمان 

.

من المهم ان نفصل في وعينا بين العقيدة القتالية والعقيدة العسكرية للدولة وما نسميه بالعقيدة القتالية او العسكرية داخل المؤسسات العسكرية والامنية كسلوك للافراد وتقاليد داخل المنظومة وقواعد ليس بالضرورة مكتوبة، ولكنها موروثة ويتم الحفاظ عليها وفق ذاكرة هذه المؤسسة ومخزونها من تجارب ليس بالضرورة هي الافضل في بناء اي جهاز بيروقراطي، سينشغل افراده بالتاكيد على اهمية دورهم من خلال تعظيم دور جهازهم البيروقراطي هذا.

العقيدة القتالية للدولة هي تطور لانماط قدرة الدولة في تعزيز استقلالها في الدفاع عن نفسها وحماية مصالحها من المهددات والمخاطر الامنية، وتعدي هذا لقدرتها على انفاذ قانونها الوطني واحترام القانون الدولي، وفق عالمنا المعاصر، ومنذ أن اصبحت الجيوش تبنى بشكل احترافي مهني، يتم اعداد افرادها وتدريبهم لتحقيق كفاءة هياكل الجيش وجدارة افراده لتحقيق هذه القدرات، في الوقت الذي اصبحت فيه العسكرية هي العقيدة القتالية للدول، وليس التطوع او المبادرة التي يمكن ان يقوم بها الافراد او المجموعات القبلية والدينية داخل الدولة، فالاطار الذي يجب ان يحكم احتكار الدولة للعنف كمبدأ في الدولة لتعزيز امنها القومي، هو اطار قومي بالأساس وان تطور من خلال تعزيز قدرة المجتمعات المحلية على التعايش، وحل النزاعات الداخلية سياسيا وسلميا من خلال عمومية الدولة وتعزيز سلطات افرادها وصيانة حريتهم وكرامتهم وفق عدالة فرصهم في التنمية والمساواة في الحقوق.

ما يمكن ان يسمى بعقيدة قتالية او عسكرية داخل اي منظومة امنية بمعنى سلسلة الاوامر والتصرفات الغير مكتوبة، والتي تشكل سلوك ممنهج لهذه الوحدات وافرادها، هو مناط اي عملية اصلاح مؤسسي لاي جهاز بيروقراطي وليس الجيش او الشرطة والامن لوحدهم، ويجب الوعي لكون هذا السلوك الممنهج والذي يحكم اداء هذه الاجهزة، ليس من صميم اهدافها وواجباتها، وليس بالضرورة من الخبرات الموضوعية او المهارات الذاتية التي تعين على تحقيق هذه الاهداف، وخدمة الواجب الوظيفي، بل بالعكس في كل المهن ظلت كثير من هذه السلوكيات اساس لتعزيز امتيازات الافراد ومنسوبي اجهزة الدولة خارج اهداف وظائف الخدمة العامة، وبالتالي انحراف جهاز الدولة عن واجباته ومهامه وتهديده للمصلحة العامة، وتعزيز مصالحه الخاصة والتمرغ في الميري كما يقال في المثل الشعبي.

يمكن ان يتجاوز هذا الوصف للاختلال في العقائد المهنية داخل الدولة السودانية، الى وصف الاختلال داخل الطبقة السياسية، والتي اتخذت من العمل السياسي طريق مختصر shortcut، لهندسة امتيازاتها بعيدا عن عنت مؤسسات الجهاز البيروقراطي، “ومطاولاته”، والتي يحكم وجودها سلسة قوانين مكتوبة وهياكل موجودة لا يمكن تجاوزها وفق عجلة السياسي الناشط، الذي ينتهي دائما لاقامة تحالفات مع اجهزة الدولة لتمكين سلطانه، تنتهي بتعزيز انحراف هذه الاجهزة وليس اصلاحها باية حال، وتهيئة الدايرة الشريرة للدوران مرة اخرى وفق متلازمي الاختلال والهيمنة، كملمح اكيد للانحلال السياسي. ولكن من الاهم الان ترك نظامنا السياسي جانبا، والانتباه لجهاز الدولة؛ فبقدر ما يهدد قصور السياسيين وانحرافهم النظام السياسي، الا ان انحراف جهاز الدولة يهدد وجود الدولة الان، وبالقدر الذي يمكن ان تحكم حركة الجماهير وتنامي وعيها طبقتنا السياسية وتعزلها حتى، الا ان انحراف جهاز الدولة سيهدد هذه القدرة عند الجماهير على ابتكار نظامها السياسي، الديمقراطي اذا شئنا، وبشكل اكبر من انساق الاجتماع التقليدي في مجتمعاتنا، وبينما يخضع اي نظام سياسي على قدرة الجماهير ودرجة نمو وعيها وفق شروط غالبة فيها الذاتية، قد يكون التفريط فيها طريق للتعلم، يخضع جهاز الدولة لشروط موضوعية وخبرات ومهارات علمية لم تعد تعترف حتى بالحدود الوطنية لانتقال المعرفة والعلوم وتطبيقاتها يكون التفريط فيها مهلكا.

وفق هذا لا يبدو الحديث الان عن الاصلاح الامني والعسكري عملية معزولة عن مجمل اصلاح جهاز الدولة، ووفق حقيقة تاريخية لا يمكننا اغفالها كون هذا الجهاز اتى سابقا لتطور اجتماعنا السياسي والدستوري، وبالتالي وضع القوات النظامية كقوة لانفاذ القانون فوق السلطة القانونية المستقلة نفسها، القضاء، وفوق المشرع اي الشعب نفسه، مما اعاد تعريفها عمليًا كقوى فوق دستورية. وبالنظر لهذا الواقع لا بد من الدخول في عملية شاملة تضع في اولوياتها استعادة جهاز الدولة ومن ضمنه الاجهزة الامنية والعسكرية واعادة تعريفه بشكل سليم بعيدا من ارسال تطمينات للافراد وتعزيز نفوذ القيادات الحالية، عملية تهدف لتعزيز دور هذه المؤسسات كجزء من بنية السلطة المدنية وليس منافسا لها وفق سيادة القانون العادل، ودولة المؤسسات، وتعزيز قدرة الجماهير ومسؤوليتها على المحاسبة. وهو ما يعني ردم هذه الهوة الناتجة عن كون جهاز الدولة اتى سابقا للدولة نفسها، بغير كيفية الانحلال السياسي الحالية التي تتعاطى مع الاشواط المفقودة في صراعنا السياسي الاجتماعي الوطني اتجاه الدولة كامتياز، وليس كواجبات لم يعد بالامكان تأجيلها.

#الدولة_وما_أقل

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.