حميدتي: “لست رزيقياً أنا دعم سريع”

0 34

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

 لو أحسنا فهم هذه الحرب الجائرة في السودان، بيض الصفائح، لكان السبب تقاعس فكرنا، سود الصحائف، في الحيلولة دون وقوعها، أو اللطف فيها متى وقعت. فنزاعات بناء دولة ما بعد الاستعمار في السودان التي بدأت بـ”تمرد” الفرقة الجنوبية في أغسطس (آب) 1955 خلال فترة الحكم الذاتي، أي قبل الاستقلال (1956) بنحو عام ونيف، لم تهد حيل الدولة فحسب، بل قوضت قدرتنا على التفكير السوي في مسألتنا أيضاً. فالمسائل المعقدة التي تثيرها هذه الحرب مجدداً عن مجتمعنا وسياستنا لم تجد من فكرنا سوى التحري عمن كان السبب من صفوتنا. فبعد اصطفاف الواحد مع أي من العسكريين المتقاتلين، الفريق عبدالفتاح البرهان والفريق محمد حمدان دقلو، ينحي كل فريق باللائمة على الفريق الآخر. فمن رأي أنصار النظام القديم، المعروفين بـ”الكيزان” أو “الفلول”، ممن اصطفوا مع البرهان، أن “قوى الحرية والتغيير” هي التي بعثت هذه الحرب ذميمة. فكانت قد تحالفت في رأيهم مع حميدتي طوال ما كانت ترتب للاتفاق الإطاري الموقع بينها والجيش والدعم السريع في ديسمبر (كانون الأول) 2022، في حين اعتزلت الجيش وعادته. ومن ذلك أنها قبلت أن تكون قوات الدعم السريع تحت قيادة رئيس الوزراء المدني خلال الفترة الانتقالية، لا القائد العام للقوات المسلحة. فعززت الدعم السريع لتوغر صدر الجيش فالحرب. ولا يرى من هم في صف الثورة، ومنهم قوى “الاتفاق الإطاري”، في الحرب سوى انقلاب قامت به عناصر “الكيزان” اختطفت فيه الجيش لتعطيل نفاذ الاتفاق، واسترداد حكمهم الذي زال بثورة ديسمبر 2018. وبينما ينتظر “الكيزان” هزيمة حميدتي ينأى “ربائب السفارات”، وهذه صفتهم عند خصومهم لخلطتهم بالدبلوماسية الغربية في صياغة “الاتفاق الإطاري”، بأنفسهم عن طرفي الحرب بالدعوة إلى وقف الاقتتال والعودة لمنصة اتفاقهم. وتجد مثل الحزب الشيوعي يتهم جنرالات الجيش والدعم السريع والإخوان والحرية والتغيير (المركزي والكتلة الديمقراطية) جميعاً بالضلوع في الحرب، تستنصر كل فرقة منهما بقوة خارجية، الجيش و”الكيزان” بأميركا والدعم السريع بروسيا.

هذه ملاسنات عاطلة من عند سياج الحرب الدائرة. من أيد طرفاً فيها كتأييد “الكيزان” للجيش كان عن تشفٍ. فخرج يتوعد رموز “الاتفاق الإطاري”، ربائب السفارات، بالويل والثبور وعظائم الأمور متى وضعت الحرب أوزارها بنصر للجيش قريب. ولم يتحسب مع ذلك لانتصار الطرف الآخر، وهو وارد، ومغازيه. أما المتفرجون على الحرب سواهم، فاعتصموا بدعاء “اللهم أضرب الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بين أيديهم سالمين” لم يتحسبوا لسيناريو نصر أي من الطرفين وهزيمة الآخر طالما خرجوا سالمين. وهيهات. فسيكون السودان بلداً غير ما هو ولعقود، بخاصة إذا انتصر الدعم السريع. فانتصاره سيأتي للحكم بصفوة لم تعتل سدة الحكم منذ 120 عاماً بنهاية عهد الخليفة عبدالله التعايشي الذي جاء مثل حميدتي من إقليم دارفور وخلف المهدي على دولته بعد وفاته عام 1885 حتى قضى الإنجليز على حكمه في 1898. وربما لن يسعد “الكيزان” بانتصار الجيش. بل ربما جاء حسابهم على يده. فالدعم السريع من بنات أفكارهم صنعه الرئيس المخلوع عمر البشير عام 2013 ليؤمن نظامه من الجيش نفسه. وسيرى الجيش على ضوء وقائع معركته الحالية التي لا يزال فيها في موقف الدفاع عن مواقعه حتى في قيادته العامة، كيف أنه ضل ضلالاً بعيداً من مهنيته للحكم منذ استيلائه عليه أول مرة عام 1958. وسيرى من عضاض الدعم السريع، الجيش الثاني الذي استردفه بفضل “حكومة الإنقاذ”، الكلفة العالية التي تكبدها هو والوطن متشرداً في غير ميدانه.

يتفق حملة الرأي والقلم، سود الصحائف، على خلافهم مع ذلك، في شيء واحد وهو أن حميدتي كـ”لا شيء”. فما إن ظهر في ساحة السياسة المدنية في الخرطوم بعد الثورة حتى سخر منه أهلها بوصفه “راعي شياه” و”تاجر حمير” و”أمي” وحتى قولهم إنه أجنبي من تشاد. وتسمع من “الكيزان” أنه “بليد” في السياسة. وهذه صفوة تأخذها العزة بامتيازها، فتستصغر من مثل حميدتي وترخص به لتسد طريقه إلى منازل سلطانها. والامتياز طريق قصير للسذاجة. ومن أبواب هذه السذاجة الاعتقاد بأن حميدتي ممن سيخضعون لبروتوكولهم في دمج الدعم السريع ضمن القوات المسلحة. فهو لم يرفضه في يومنا لنقول إن رفضه هذا سبّب الحرب، أو إنه سيستجيب له إذا ما أثير في المفاوضات التي تتنادى الصفوة ودوائر عالمية وإقليمية لعقدها بعد وقف إطلاق النار. فلم يخطر لحميدتي يوماً أنه سيكون جزءاً من القوات المسلحة. ولم يترك باباً لم يطرقه ليؤمن وضعاً مستقلاً لقواته كجيش ثانٍ له ما للجيش الأول وعليه ما عليه. وعقيدته عن أن دعمه السريع جاء ليبقى، أذاعها في 2018 على الناس في برنامج الطاهر حسن التوم “حتى تكتمل الصورة” على قناة س24. وأوقف جهاز الأمن والاستخبارات البرنامج بعد ذلك اللقاء بسبب الخشية من أقوال حميدتي بحق “إنقاذي” مرموق. وأنقل نص ما انطوى عليه حميدتي عن دعمه السريع في قرارة نفسه:

الطاهر: ما مصير الدعم السريع بعد انتهاء مهمتها هل تكون جزءاً من الجيش؟

حميدتي: يكون وضعها قوات دعم سريع. تتدرب وتتأهل. هي قوات الآن.

الطاهر: يعني تظل موجودة؟

حميدتي: يعني انتهت المهمة يشيلوها يجدعوها واللا كيف؟

الطاهر: تنضم إلى الجيش.

حميدتي: هي جيش.

الطاهر: تدمج.

حميدتي: هي ليست ميليشيا كي تدمج. هي أصلها قوات.

الطاهر: الآن عندها وضع مميز.

حميدتي: أقول ليك كلام. نحن سند للجيش مثلنا مثل الدول الأخرى. في تشاد القريبة هذه في الحرس الجمهوري لا يتحرك إلا بأمر رئيس الجمهورية. لم نأت ببدعة ليتكلم عنا الناس. أما عن الدمج، فنحن لا نندمج. نحن قوة موجودة وتؤدي مهماتها.

وخلص الطاهر من حديثه مع حميدتي “إلى أنكم ظاهر قاعدين قاعدين”، أي أنكم جئتم لتبقوا.

ولم يخف حميدتي عزته بدعمه السريع في اللقاء نفسه حيال صحافي رجع به في سؤال إلى انتمائه إلى عرب الرزيقات. فأصمته بقوله: “لست رزيقياً. أنا دعم سريع”.

وصف الأكاديمي المتخصص في السياسة السودانية ألكس دي وال الطبقة السياسية السودانية بـ”الإرهاق” غير الخلاق. فعادت واحدة بعد الأخرى منها بالخيبة من مشاريعها سواء كانت الحداثية على يد الرئيس جعفر نميري، أو الإسلامية على يد الرئيس المخلوع عمر حسن أحمد البشير، أو دعوة السودان الجديد على يد ورثة العقيد جون قرنق في جنوب السودان والسودان. وقال إن مشاريعها الخائبة ترقد كالجثث تحول دونها والحق. ومن هذا الحق أن ترى في مثل حميدتي معنى غير استعماله مع الاشمئزاز منه. فلم تتصل هذه الصفوة بعد بالمناهج التي يدرس علماء السياسة مثل ظاهرة حميدتي التي ليست نشازاً. ولا أعرف من اقترب من هذه الدراسة مثل عبدالوهاب الأفندي باستقدام مفهوم اللاعب العسكري خارج نطاق الدولة (non-state military actor) إلى دائرة تحليل ظاهرة حميدتي. فلا تقوم ميليشيات مثل هذا اللاعب في فراغ. فهي تنهض بالخدمة كرد فعل لفشل الحكومة أو غيابها. فإن ثلث بوركينا فاسو مثلاً من جيش وشرطة، فخرجت لتحكمه حركة “كولوفوقو” التي قوامها 40 ألف مجند ولتستعين بها الحكومة نفسها لمحاربة الحركات المتشددة في شمال البلاد. وهي الملابسات السياسة نفسها التي خرج منها حميدتي.

ويأتي هؤلاء اللاعبون خارج نطاق الدولة من غمار الناس ممن سحبت الحكومات القائمة عليهم آليات خدماتها وتنميتها لتستأثر صفوتها بالثروة وتتركهم لتدبير حالهم كيفما اتُفق. فاشتهرت في وقت عبارة “التصويت بالأقدام” عن أهل الأرياف الذين دفعهم ضيق الرزق إلى الهجرة للمدينة. وجاء اليوم علينا تصويت مثل حميدتي بفوهة بندقيته.

تختصم الصفوة ليومنا والحرب زؤام من مقاعد المتفرجين حول أي الحصانين هو الرابح فيهما، أو تعتزلهما. وتتفق مع ذلك على أنه لا مكان لأحد الحصانين، حميدتي، في السباق أصلاً لولا الظروف. ولن تجد منهم رصانة في الإحاطة بظاهرة حميدتي كما فعل ألكس دي وال في مقالة أخيرة قال فيها:

“حميدتي عاصفة. ولكن صعود نجمه هو انتقام للمهمشين بصورة غير مباشرة. ولكن مأساة المهمشين السودانيين أن الرجل الذي خرج نصيراً لقضيتهم خلا قلبه من الرحمة وعلى رأس عصبة من الصعاليك. ولا تملك مع ذلك أن تشهد له بأنه تمرس للغاية في اللعب في السوق العسكرية الوطنية والإقليمية”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.