الأخطار الوجودية التي تتهدد الأمة السودانية 

0 56

كتب: د. الوليد آدم مادبو

.

السودان ذاك البلد مترامي الأطراف بعيد المصاف ليس مجرد فجوة جغرافية، إنّما هو حقيقة تاريخية قديمة الأحلاف بديعة الأوصاف. لا أجازف عندما أنعت جموع الأمم التي تحتل هذا الفضاء بأنّها أمّة ذات وجود حيوي وثقل إنساني كاد أن ينصهر في بوتقة اجتماعية واحدة لولا فعل السياسة التي فرقت بين بنيه على أسس أيديولوجية وأخرى دينية وافدة لم تنبع من تربته ولم تراعي خصوصيته. في هذه المقالة أود أن أتعرض للأخطار التي يمكن أن تتهدد الأمة السودانية في هذه اللحظة التاريخية الحرجة وليس فقط الدولة السودانية التي قامت على أسس شابها كثيرٌ من العلل وتناولها فرقٌ من الأمزجة العقيمة في أغلبها.

أولاً، إن خطاب الكراهية المنتشر بكثافة هذه الأيام هو أحد الأخطار التي يمكن أن تنال من وحدة الأمّة. كلما تمادينا في نفي الآخر المختلف عنّا سمتاً ولفظاً بأنّه غريب كلما أمعنا في إنكار الاشكالات البنيوية والهيكلية التي عمّقت اختلافاتنا وتسببت في تصدع وجداننا. ما الذي يجعل “الغرابي حاقد” وسبب حقده “الجلابي المستبد”؟. ما الذي يجعل الفولاني ذو الأصول الغرب افريقية متخلفاً وسبب تخلفه الحلبي ذو الأصول الشرق أوسطية؟. هذه النعوت تطلق جزافاً من أناس من المفترض أن يكونوا واعين بدور الاقتصاد السياسي أو الاجتماع الثقافي في خلق الفوارق الطبقية أو ترميمها منهجياً من خلال الاستعانة المؤسسية بالادوات العلمية، حتماً ليس التلبس بالعنجهية أو اعتماد الطرق الاعتباطية.

ثانيةً، إن تغييب العقل عمداً أو جهلاً والانسياق وراء العاطفة في جهد حثيث من “الطبقة المستنيرة” لتجييش المشاعر لصالح جهة من الجهات لهو أمرٌ مستقبح فيه خيانة للضمير قبل أن يكون فيه جِنحة على التفكير. يحدثنا بعض الكتاب عن “التمرد” و “الانفلات الأمني” متناسين أن هذه الظواهر هي وليدة السفاح الذي كانت تمارسه النخب المركزية – والعصابة الانقاذية خاصة – لمدة عقود من الزمان في نواحي السودان المختلفة. يشمل ذلك الجنوب وغرب السودان.

مثلاً، عندما رفض المرحوم الناظر سعيد مادبو، ناظر قبيلة الرزيقات حينها، تجييش القبائل على أسس قبلية في حرب الجنوب الجهادية تجاهله الرائد/ إبراهيم شمس الدين، أَنزل الطائرة في بحر العرب ووزع البنادق الاتوماتيكية على من رغِب دون الاعتناء بتدوين نمرة البندقية أو أخذ رقم البطاقة الشخصية. وعندما رفض الناظر (طيب الله ذكره) قتال الزرقة، تم تجاوزه والاستعاضة عنه بنخب طموحة ومتطلعة، الأهم أنّها لم تكن ذات إرتباط تاريخي ووجداني وثيق بدارفور (أو بالسودان) يمنعها من الاخلال بالعهود والمواثيق، فكانت الإبادة الجماعية.

ثالثاً، إن تصدع الوجدان الحالي سببه تعويل “العصابة الانقاذية” لمدة تزيد عن الثلاثة عقود على الانقسامات واستثمارها استثماراً سلبياً للفروقات العرقية والجهوية والمناطقية. يجب أن نسعى لرأب الصدع معولين على الثراء الثقافي والتنوع الوجداني، وألّا نركن للدعاوى الجاهلية التي لا تفلح إلّا في تأجيج الفتن واشعال الحروب. إن دعواهم “جيش واحد شعب واحد” بلغت مسمعي ولم تصل قلبي، لأن كبيرهم (البشير) هو من قسم الجيش إلى مليشيات عديدة ومن جعل شعبها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبنائهم ويستحي نسائهم، إنّه كان من المفسدين.

رابعاً، إن انعدام الحس الأخلاقي عند النخب، غَلبة التفكير الرغائبي، وتلاشي الحس الثقافي والإبداعي من أخطر المهددات للأمة، لأن الثقافة، كما يقول الفيلسوف المغاربي العظيم، المهدي المنجرة (رحمه الله)، هي خط الدفاع الأخير بعد أن تنهزم الجيوش وتَنْهَد المدائن. إن للمثقف مسؤولية وطنية لا يمكنه أن يؤديها بأمانة إلّا إذا وقف على أرضية أخلاقية صلبة تحول بينه وبين المزايدة في المواقف من نوع (يا معنا أو ضدنا) كالتي تروج لها الآلة الاعلامية “للعصابة الانقاذية” التي لم تقف يوماً في خندقٍ واحدٍ مع الشعب، أو عبارة (نكون أو لا نكون) كالتي يطلقها قادة الدعم السريع هذه الايام وتتبناها الرعية دون روية. متى تنكر السودانيون لهذا الكيان؟ وهل تُخاض معارك الكينونة بمثل هذه الطرق العبثية الإجرامية؟

خامساً، إن تَبَدُد رأس المال الذي تراكم منذ الاستقلال أو ما قبله بقليل، أمرُ يثير الحسرة وينذر بالشفقة على مستقبل هذا البلد. اتصل بي Majak D’Agoot أحد أصدقائي من مثقفي الجنوب البارعين وقال لي: يا دكتور، لقد ذرفت دمعاً عندما رأيت الدمار الذي حلّ بالمنطقة الصناعية بحري، ذاك رجلٌ اقتصاديٌ وطنيٌ يعلم يقيناً أن إعادة بناء مثل هذه الصروح التي تمد السودان وجاراته بالمنتجات الغذائية والصناعية لا تتم بالنزر اليسير من الجهود، فقد بُنيت بشق الانفس واستحدثت بتراكم معرفي جلّ أن يتوفر في وقت قصير.

السؤال: لمصلحة من يتم استهداف الرأسمالية الوطنية، خاصة تلك التي بدّلت مواقفها وانحازت للثورة؟ لا اعتقد أن المتمردين أو المتفلتين يملكون مُدَوّنة عن الخارطة الاقتصادية الاجتماعية كي ينهبوا بعض المنشآت ويستثنوا البعض الآخر، ولا أظنّه كذلك تداعياً تلقائياً لثلاثية (الانفلات-الفوضى-الحريق). ثمّة حلقة مفقودة ستتكشف مع الأيام.

سادساً، إنّ نزوح (أو هجرة) العقول النابهة من تجار واقتصاديين وصيارفة وإعلاميين وأطباء ومهندسين وقانونيين وعسكريين وفلاسفة – إن وجدوا – ومفكرين هو بمثابة انهيار الجهاز العصبي الذي لن تستطيع الدولة من دونه أن تعمل أو أن تُفعّل، وها هم الانقلابيون من الفريقين يحتلون اليوم فضاء الخرطوم وأرضها فيعجزون عن تشغيل الإذاعة، بل ويفتقرون إلى المشروعية الاخلاقية والسياسية المرتبطة بتسيير دولاب الدولة وتأمين حاجيات المواطنين. الأخطر، إنّهم بحماقتهم يتسببون في تدمير البنية التحتية على هشاشتها ويستهدفون دون رشاد حتى المعاهد البحثية والدوائر العلمية.

سابعاً، إنّ انعدام التكامل الاقتصادي الانساني في كافة الأقطار السودانية كان سبباً في تفشي الغبن الاجتماعي وتنامي الأحقاد الطبقية التي ازدادت في السنوات الأخيرة بسبب سياسة التحرير الاقتصادي التي لم تراع هشاشة التكوين الاقتصادي الاجتماعي ولم ترع بالاً لفساد المؤسسات الحكومية وضعف قدرتها على تفعيل نظم الحكامة المتمثلة في تقنين سبل الشفافية والمحاسبية.

في غياب الرقيب وحال حدوث الفوضى العارمة أيام محاكمة Rodney Glen King بولاية كاليفورنيا (1991) رأينا النهب والسرقة في ارقى المجتمعات، بيد أن القوات الفدرالية نجحت في درء الفتنة بسرعة متلاشية حدوث أضرار أكثر فداحة. يتسأل المرء عن عجز الشرطة السودانية من مجرد الحماية للمؤسسات الحيوية ساعة الحرب. هل سيتم التحقيق مع قيادات الشرطة فور رجوع الدولة للقيام بدورها أم أنّ ذلك سيترك ليمر مثل باقي الممارسات التي تمر دون مساءلة؟

ختاماً، لقد كشفت الحرب عوراتنا وأظهرت “الكوز” الذي كان مندساً بدواخل كلِ واحدٍ منّا، علينا أن نستعين بعلماء الاجتماع وعلماء النفس للنظر في الاشكالات الاخلاقية التي تحول دون تماسكنا كأمّة من المفترض أن تكون راشدة بالنظر إلي التجارب التي عايشتها. لا يمكن أن تحدث النهضة الحقيقة إلّا بالتعويل على قيمة محورية مع ضرورة تلافي تلكم الخصال المَرَضِية. توشك لحظة الانكسار هذه أن تستحيل إلى لحظة إزدهار إذا ما ناظرنا الأفق وعاينا تلكم اللحظات الباهرة التي تنتظرنا. سنزيل كل هذه الثكنات العسكرية من ساحتنا، سنبني حديقة غنّاء في الفضاء الذي يقتتل فيه الفرقاء ولنسمّها حينها (حديقة الشعب) كما فعل أردوغان بالساحة التي كان يحتلها مطار أتاتورك في استانبول الخضراء. هنا يحضرني قول الشاعر:

سنصير شعباً حين ننسى ما تقولُ لنا القبيلة, حين يُعْلي الفرد من شأن التفاصيل الصغيرةْ, سنصير شعباً حين ينظر كاتبٌ نحو النجوم , ولا يقول: بلادنا أَعلى وأجملْ. محمود درويش

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.