استطرادا لبيان مؤتمر كوش حول الحرب الدائرة
كتب: د. محمد جلال أحمد هاشم
.
تحت عنوان *لماذا اندلعت هذه الحرب؟ وكيف يمكننا وقف هذه الحرب!* أصدر *مؤتمر كوش* بيانا ضافيا وضع فيه النقاط حول الحروف. أدناه سوف نقدم استطرادا وتوسعةً منا لهذا البيان الهام.
*الحرب والكتابة المغبونة ضد الجيش*
يتناول بيان *مؤتمر كوش* ما نلاحظه جميعا هذه الأيام في الكثير من الكتابات التي تحاول تحليل هذه الحرب الجارية، ورغم ذلك تفشل أغلب هذه الكتابات في التوصيف الدقيق للحالة، ثم تفشل تبعا لذلك في التحليل وبالتالي في النتائج. وهناك من يتلمظون الشفاه متعةً واستمتاعاً بنتائجهم الجزافية التي توصلوا إليها ومفادها الهزيمة النكراء التي مُني بها الجيش السوداني في مواجهة مليشيا للدعم السريع. بعض هؤلاء ينطلقون من مزاعم بأن هذه الحرب هي حرب الكيزان ضد الجنجويد؛ وبعضهم ينطلقون من أن هذه الحرب هي حرب وكالة! ممن وعمن ولمن؟ هنا نراهم يصدرون الأحكام الجزافية دون تقعيدها تحليليا. وبعضهم ممن ينتمون إثنيا إلى المجموعات الثقافية التي صدر منها الجنجويد، وعملا بالقاعدة التي تقول “الجنس للجنس رحمة” وجدوا أنفسهم مصطفين مع الجنجويد؛ هذا مقابل اصطفاف آخر مع الجيش بافتراض أنه أيضا يمثل الوسط والشمال النيلي. كل هذه الكتابات لا تصدر إلا من أشخاص سذج، وكسالى ذهنيا، يركنون للنتائج السهلة ولو كانت خاطئة، أو من قبل أشخاص يحملون غبائن ضد الجيش السوداني. وكما قلنا، المُغْتَبِن غير فَطِن، ذلك لأن مخايل الذكاء تنحجب عنهم جراء غبنهم. وهكذا نجد أنفسنا بين نارين: نار الكتاب المتواطئين من جانب، ونار الكتاب المغبونين من جانب آخر.
***
يبدا بيان *مؤتمر كوش* بعنوان جانبي يقرأ: *توصيف الحالة بموجب الحقائق على الأرض* ويأتي في معرض ذكر الحقائق على الأرض، مقابل الكتابة المتواطئة أو المغبونة، وبهذا يقدم توصيفا صادقا ومتعمقا للحالة كما هي على الأرض.
***
إذن، كما يقول بعض كتاب المقالات المغبونين، فالجيش قد تحطم وانهزم أمام مليشيا الجنجويد! حسنا! يتساءل البيان: أين يفترض أن هذا قد حدث؟ بالطبع، بحسب زعمهم، فقد حدث في الخرطوم! هنا ينبّه بيان *مؤتمر كوش* إلى أن هذا لو فعلا حدث، فإنه لا يعني بالضرورة أن الجيش السوداني فعلا قد تحطم! فالجيش لا زال موجودا في كسلا والقضارف وبورسودان وعطبرة وجبيت وشندي ومروي وكريمة والدبة ودنقلا ووادي حلفا والأبيض وكادوقلي والدلنج والنهود ومدني وسنار والدمازين وكوستي والجبلين والفاو والفاشر والجنينة ونيالا والضعين وزالنجي …. إلخ؟ فهذا فعلا حكم مرسل وغير مقيد بأي قدر من التوصيف الموضوعي الملتزم بالحقائق على الأرض حتى يخلص بعد هذا إلى تحليل الواقع ليصل بعد هذا إلى النتائج.
بعد هذا يقوم البيان بأخذ جزئية انهزام الجيش السوداني في الخرطوم العاصمة، ويبدأ بالحقائق على الأرض. فالدعم السريع له على أقل تقدير حوالي 70 إلى 80 ألف مقاتل داخل الخرطوم، مقابل حوالي 15 – 20 ألف مقاتل للجيش السوداني بالخرطوم. والدعم السريع يستخدم كل ما في حيلته من سلاح (رشاشات آر بي جي، إس بي جي، الدوشكات أحادية وثنائية، وحتى الرباعية المضادة للطائرات) ضد مشاة الجيش السوداني. بالإضافة إلى هذا، يلفت البيان النظر إلى أنه ينبغي أن نضع في الاعتبار العوامل التالية:
أولا، تعتمد قوات الدعم السريع على فتح النيران الكثيفة وبلا هدف محدد (مثل فتح النيران على طائرات خارج مدى رمايتها)، مع زيادة عددها مقارنةً بعدد قوات الجيش السوداني؛
ثانيا، تتخفى قوات الدعم السريع خلف الأحياء السكنية والمواقع الإستراتيجية مثل محطات الكهرباء والمصفاة، والقصر الجمهوري .. إلخ، بالإضافة إلى استخدام المدنيين كدروع بشرية، دون ذكر أي شيء عن ترويع الشعب ونهب ممتلكاته العامة والشخصية واستباحة منازله واتخاذها كمقار مؤقتة له، بالإضافة إلى التدمير والحرق المتعمد للمؤسسات العامة.
هذا يعني بالواضح أن الدعم السريع يحارب بلا أي أخلاقيات اشتباك تجاه المدنيين وتجاه حقوقهم الأصيلة كمواطنين، ثم تجاه مكتسبات الشعب ممثلة في المؤسسات العامة. فهذا، جانبا عن تجريمه، يجرده من أي حاضنة اجتماعية ويجعله يحارب مجتمعا بأكمله يقف متضامنا مع جيشه، وقريبا ما يصطف معه تضامنا وقتالا. وكل هذا يكشف عن الطبيعة المليشيوية المافيوزية لقوات الدعم السريع. وهذا يعني، ضمن ما يعني، قصور الخبرة القتالية المنظمة لدى مليشيا الجنجويد، بجانب انعدام أي درجة من أخلاقيات الاشتباك. وهذا ما يجردها تماما من أي تعاطف شعبي.
في المقابل، يعمل الجيش بخطط تمليها عليه قواعد الاشتباك وتكتيكاته التي يعرفها أي جندي أو ضابط تخرج في مدرسة الجندية أو في أي كلية حربية، وأولها مراعاة قواعد الاشتباك داخل المدن والأحياء في مواجهة مليشيا فائقة العدد وعلى استعداد لاتباع سياسة الأرض المحروقة، كما لا تضع أي اعتبار للمدنيين، بل تنكّل بهم وهي لمّا يُكتب النصرُ لها بعد.
في وضع كهذا، يصبح من غير الحكمة العسكرية زج الجنود المشاة في معركة ضد قوات تفوقهم عددا. فما العمل وما الحل؟ مع كامل إدانته للقصف العشوائي وتهديد حياة المدنيين، يستعرض بيان *مؤتمر كوش* الحل الذي تبناه الجيش، ألا وهو القصف الجوي لمواقع المليشيا ومن ثم التقدم ببطء على الأرض، لكن بثقة، في سبيل تمشيط المناطق التي تنتشر فيها هذه المليشيا. وهنا ينبغي أن نلاحظ أن المصطلح المستخدم هو “تمشيط” combing، وليس دحر، لأن ما يجري حقيقةً هو انهزام مليشيا الجنجويد إستراتيجياً وتكتيكيا.
***
ثم يتناول البيان حقيقة أن هناك بعض الكتاب المتواطئين أو المغبونين (لا يهم) ممن تحدثوا بسخرية واستهزاء عن الاستعانة بقوات الاحتياطي المركزي في تمشيط وسط الخرطوم، متخذين ذلك كبينة على انهزام الجيش السوداني. في هذا الخصوص، يلفت بيان *مؤتمر كوش* إلى أنه كان عليهم أن يستفسروا أولا عن طبيعة ومهام قوات الاحتياطي المركزي قبل الحديث. فهذا الاستخدام في حقيقته شيء منطقي للغاية، ذلك لأن هذه القوات التي يقرب عددها من 30 ألف يفترض أن تكون عالية التدريب لمواجهة حرب المدن، في تساوق وتعاون مع الجيش الذي قد يجد نفسه داخل المدن غير قادر على استخدام أغلب قوته الضاربة (الصواريخ والمدفعية والدروع وإلى حد كبير استخدام سلاح الجو بقدراته القصوى).
أما أن تكون هذه القوات (الاحتياطي المركزي) غير عالية التدريب، فيشير البيان إلى أن هذا متوقع ومرد أكبر أسبابه إلى عدم الاشتباك ضد أي عدو عالي التسليح في الماضي القريب، وانكفائها لسنوات عددا على قمع المظاهرات السلمية والتنكيل بالثوار. وفي الحقيقة هذا العامل هو نفسه ما يعاني منه الجيش لدرجة كبيرة، كونه لم يخض أي حروب مؤخرا. ولكن استعادة الروح القتالية والجاهزية يمكن أن تتحقق بسرعة كبيرة للقوة التي تلقت من قبل التدريب المهني العالي، لكن تراخت قدراتها.
***
*لا للحرب! أوقفوا هذه الحرب!*
بخصوص حديث العديد من كتاب المقالات المتواطئين أو المغبونين، أو غيرهم، عن ضرورة وقف القتال فورا، يشير البيان إلى أن هذه الدعوة، بالطريقة التي يلوكونها، ساذجة وفطيرة ولا طائل من ورائها. ذلك لأنها بطريقتها هذه لن توقف الحرب. هنا يشدد بيان *مؤتمر كوش* إلى أنه كان الأحرى بهؤلاء الكتاب أن يلتفتوا لعامل الضرورة في هذه الحرب، وما إذا كان موجودا أم لا. فالحروب لا تشتعل إلا لضرورة، ذلك لكلفتها العالية. وبالتالي إذا لم تُعالج هذه الضرورة فإن الحرب لن تقف لمجرد أن المدنيين قد طالبوا بوقفها. فهل فعلا توجد ضرورة لهذه الحرب؟
بدءا، لا بد من التنبيه إلى أن عامل الضرورة لا يشمل طرفي النزاع، بل هو ألزم لطرف واحد دون الآخر. وكما قال بيان *مؤتمر كوش*، فإن تحديد طبيعة عامل الضرورة هو النافذة والبوابة والمدخل لحل أي حرب؛ وبدون تحديده سوف تفشل كل الجهود لإيقاف النزاع في بدايته أو إيقاف الحرب بعد أن تشتعل.
لشرح مسألة الضرورة هذه، ضرب بيان *مؤتمر كوش* أمثلة معاشة. من ذلك، مثلا، نزاع خليج الخنازير مقتبل ستينات القرن العشرين بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، وجدت الأخيرة نفسها مضطرة (تأملوا معنى “مضطرة”) لتشغيل بطاريات القنابل النووية لأن بناء الاتحاد السوفيتي لقاعدة عسكرية في كوبا (ما يعني تحت خاصرتها) إنما يعني في حقيقته الحرب، فكان أن استعدت لها لأنها كانت مضطرة لذلك، حمايةً لنفسها وأرضها وسيادتها … إلخ. وكذلك الحال في الحرب الروسية الأوكرانية الدائرة الآن! فقد شعرت روسيا أن انضمام أوكرانيا لحلف الناتو سوف يضع كل الأراضي الروسية تحت رحمة الحلف، وبالتالي لا يمكن لحلف الناتو أن يدفع أوكرانيا لطلب عضويته من باب حرصه على السلام، بل من باب تخطيطه للحرب. وقد فعلت روسيا كل ما بوسعها منذ عام 2008م لإقناع أوكرانيا وحلف الناتو بضرورة عدم انضمام أوكرانيا للحلف. ولكن عندما لم ينفع كل هذا في مواجهة إصرار الحلف وأوكرانيا تحت قيادةً رئيسها الكوميدي للانضمام للحلف، وجدت روسيا نفسها مضطرة لأن تدخل الحرب.
في حالة خليج الخنازير، بينما كان عامل الاضطرار والضرورة في جانب الولايات المتحدة، لم يكن الاتحاد السوفيتي مضطرا للدخول في ذلك الوضع المؤدي للحرب. وبالفعل، انتهت الأزمة بانسحاب الأخير من كوبا لعدم اضطراره لذلك. في حالة الحرب الروسية الأوكرانية الجارية الآن، مقابل حالة الاضطرار والضرورة التي تعيشها روسيا، لا تعيش أوكرانيا (ومن خلفها حلف الناتو) أي حالة ضرورة، وبالتالي لا يمكن لهذه الحرب أن تقف بانتفاء عواملها إلا بأن تعلن أوكرانيا أنها غير راغبة في الانضمام لحلف الناتو، كما على الأخير أن يعلن عن التزامه بحيادية أوكرانيا. بهذا تنتفي حالة الضرورة عن هذه الحرب وإلا تحولت إلى حالة عدوانية من روسيا ضد أوكرانيا، وتبعا لذلك تتغير موضعية حالة الضرورة من روسيا إلى أوكرانيا التي سوف يتوجب عليها عندها أن تحارب إلى آخر جندي لديها في سبيل البقاء.
***
بالعودة إلى الحرب بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع، أشار بيان *مؤتمر كوش* بنجاعة إلى أن هذه الحرب في الأصل كان لا بد أن تنشأ من باب الضرورة. فوجود قوتين عسكريتين متوازيتين مستقلتين عن بعضهما البعض داخل الدولة الوطنية الحديثة هو في حد ذاته يؤدي إلى اندلاع الحرب بينهما من باب الضرورة. والمثل يقول: “ريّيسين بيغرقوا المركب”! إذن هذه الحرب كانت ستندلع في كل الأحوال، ذلك بحكم حالة الضرورة. وعليه، على الذين يصفون هذه الحرب بالعبثية، فليعلموا أن ما تحكمه الضرورات لا يمكن أن يكون عبثيا. ولذا وجب عليهم مراجعة موقفهم وعدم الانجرار والانسياق وراء الألفاظ الرنّانة، الطنّانة، التي لا علاقة لها بالواقع. كذلك على الذين يصدقون أن هذه الحرب قد اشعلها الكيزان الفلول أن يراجعوا أنفسهم، ذلك بأن يتحرروا من الكسل الفكري والقبول بالنتائج الرغبوية. هنا يؤكد البيان أن الكيزان فعلا مسئولون عن هذه الحرب من حيث مسئوليتهم في ابتناء المليشيات الموازية للجيش والبوليس والأمن، ذلك من منطلق عدم إيمانهم بالدولة الوطنية؛ وكذلك الحزبيون إبان الديموقراطية الثالثة، تحديدا الصادق المهدي واللواء برمة ناصر وحزب الأمة، فجميعهم مسئولون عما تفتقت عنه عبقريتهم في ابتناء المليشيات ذات الأساس الإثني لمحاربة الجيش الشعبي لتحرير السودان، بمثلما برهان وطاقمه العسكري مسئولون للسماح لمليشيا الجنجويد بأن تتمدد وتتوسع لهذه الدرجة على حساب الجيش السوداني. كل هذا معروف، لكنه يؤكد شيئا واحدا، ألا وهو أن تناقضا بنيويا structural paradox قد توفرت له كل العوامل ليجعل نشوب هذه الحرب تقع من باب الضرورة.
***
بعد هذا نأتي لما تناوله بيان *مؤتمر كوش* من حيث تحديد موضعة حالة الضرورة في هذه الحرب. عند توصيف هاتين القوتين المتحاربتين سوف نجد أن أحدهما هو الجيش النظامي (ولو كان مُسيطَراً عليه من قبل الكيزان، فهذا لا يلغي نظاميته)، مقابل مليشيا إثنية عابرة للحدود وتقودها أسرة. بخصوص نظامية الجيش السوداني برغم السيطرة الكيزانية على قياداته العليا، فهذا لا يلغي نظاميته. فالجيش الألماني، مثلا، كان مُسيطَراً عليه من قبل النازيين، ومع ذلك كان جيشا نظاميا. نعم هذه مشكلة، لكن مقدور على حلها عبر الإصلاحات الأمنية والهيكلية. والحقيقة الماثلة للعيان دون أن يلحظها الكثيرون هي أن الجيش قد استعصت السيطرة عليه تماما من قبل الكيزان، ذلك لرسوخ العقيدة العسكرية للجيش السوداني بوصفه أحد أقدم الجيوش في أفريقيا والعالم الثالث، إذ يبلغ عمره اليوم 200 عام بالتمام والكمال. ومكمن أزمة هذا الجيش هو أنه سابق للدولة السودانية المستقلة، وبالتالي نجد أن عقيدته القتالية خاصة به وليس بالضرورة ان تكون عقيدة وطنية national doctrine، لكن دون أن يعني هذا انعدام الوطنية فيه. فقد عُرف بأنه”جيش سوداني” منذ لحظة تأسيسه كجيش من الرقيق بالضبط قبل 200 عام. ليس هذا فحسب، بل إن إطلاق اسم “السودان” على بلادنا، من بين عدة عوامل، كان لاسم هذا الجيش دور في ذاك.
وعليه، يمكن أن نذكر أن الكثير من الضباط الذي دخلوا الجيش على أنهم كيزان، غلبت عليهم عقيدتهم العسكرية التي اكتسبوها على ولائهم التنظيمي الكيزاني. وليس أدل على ذلك من حادثة مقاومة الضباط الكيزان ورفضهم لدرجة التمرد لصفقة الأسلحة غير مستوفية المواصفات التي اشتراها نظام الكيزان من أوكرانيا، فكان أن تم اعتقالهم واتهامهم بتدبير حركة انقلابية. وفي الحقيقة، هذا رأي لا يصدع به *مؤتمر كوش* من عندياته، بل يقول به الضباط المفصولون سياسيا وتعسفيا، وهؤلاء شهادتهم غير مجروحة في هذا الشأن. والمنطق يقول: إذا كان الكيزان قد تمكنوا فعلا من تحويل الجيش السوداني إلى مجرد مليشيا تابعة لهم، فلماذا سعوا إلى إضعافه بابتناء المليشيات الموازية له من دفاع شعبي إلى جنجويد وخلافهما؟ فكل هذه المليشيات أقل قوةً وكفاءةً وعتادا من الجيش!
***
هنا يشير البيان إلى أن هذا الأمر لم يفت على الوعي الثوري لدى التروس والكنداكات، ذلك عندما هتفوا: *الثورة ثورة شعب .. والسلطة سلطة شعب .. والعسكر للثكنات .. والجنجويد ينحل*! فهم لم يقولوا بحل الجيش، بل بإصلاحه، ذلك عبر عودته للثكنات وقيام حكومة مدنية يكون الجيش تحت ولايتها الكاملة، فتقوم بإجراء الإصلاحات الأمنية والهيكلية على الجيش. أما مليشيا الجنجويد، فالموقف الثوري تجاهها كان أيضا واضحا، لا لبس فيه ولا غموض: *الجنجويد ينحل*! وكذلك الهتاف ذو الوعي العالي: *يا برهان ثكناتك أولى .. مافي مليشيا بتحكم دولة*! وهذا هو الدرس الذي يبدو أن البرهان قد استوعبه أخيرا، بينما عجز حميدتي عن أن يفهمه، بالرغم من أن الدرس الكامن في هذا الهتاف ألزم له هو من برهان.
***
هذا بخصوص مسألة سيطرة الكيزان على الجيش السوداني وتحويله إلى مجرد مليشيا لا فرق بينها وبين مليشيا الجنجويد. ولمزيد من التوضيح، ومن باب التلخيص، لا نغادر هذه النقطة دون أن نورد التالي للمساعدة في التفريق جيدا ما بين ثلاثة أنواع من القوى العسكرية المقاتلة: الجيش النظامي (مثل الجيش السوداني)؛ جيوش التحرير (مثل الجيش الشعبي لتحرير السودان؛ المليشيات (مثل مليشيا الجنجويد وغيرها).
*أولا الجيوش النظامية* لها تراتبياتها الإدارية بدءا بالتجنيد والتدريب والتأهيل والترقي وأقسام الأسلحة والصناعات العسكرية .. إلخ، هذا فضلا عن الأسلحة الخدمية غير المقاتلة.
*ثانيا جيوش التحرير* فلا تختلف إلا من حيث انحصارها في الوحدات والأسلحة الأساسية، مثل المشاة والمدفعية والدروع وقد تملك بعض الطائرات، وإذا كانت متشاطئة لبحر أو نهر، قد تملك سلاحا بحريا أو نهريا كيفما اتفق.
*ثالثا المليشيا* لا تتقيد بكل التراتبيات التي تقوم عليها الجيوش، كما لا تلزم نفسها بأي شروط للترقي وقد تبتني لها قيادتها كيفما اتفق ad hoc leadership، وقد تكون هي نفسها إثنية الطابع، كما يمكن لقيادتها أن تكون أسرية. ولا تتقيد المليشيا بشروط ابتناء الأسلحة المتخصصة، كما تعتمد أساسا على تكتيكات سرعة الحركة hit and run، ولهذا تستخدم المركبات غير الحربية.
كل ما قلناه أعلاه كان من حيث البنية والتركيب، لكن من حيث الأداء، فالمسألة تختلف بحسب الحالة والسياق. فالجيوش النظامية وجيوش التحرير يفترض فيها امتلاك عقيدة قتالية عليا sublime combatantant doctrine مثل حماية الأرض والدولة أو تحقيق الحقوق لمجموعات بعينها تناضل من أجل حقوقها الأساسية. كل هذا يمكن أن يكون موجودا في المليشيا، لكنه ليس شرطا لازبا. فمثلا، مليشيات العصابات كالمافيا والجنجويد تفتقد لكل هذا. وبالمثل، يمكن للجيوش النظامية وكذلك جيوش التحرير أن تفقد هذه العقيدة القتالية. فليست هناك قواعد لا يمكن تجاوزها وخرقها، وعليه تتوقف الأمور على حالة الأداء في الزمان والمكان.
***
*عودٌ على بدء*
الاستطراد في هذه المفاكرات التأسيسية لما ورد في بيان *مؤتمر كوش* كان ضروريا، ذلك لأن الموضوع خرج من حدود المعرفة الفنية وتشعّب وتشوعب وتشعبن has been popularized، فتكلم الكثيرون فيه بعلم وبعضهم كثر بغير علم، وأكثرهم بغبائن.
***
بعد هذا نأتي لمواصلة استطرادنا لما وردخفي بيان *مؤتمر كوش* لتحديد أوجه الضرورة في هذه الحرب. فهي، كما أشار البيان، في الأصل قد حكمتها الضرورة الناجمة عن التناقض البنيوي structural والأدائي performative المتمثل في وجود قوتين عسكريتين متوازيتين، مستقلتين عن بعضهما البعض داخل الدولة الوطنية الحديثة. فهذا التناقض كان لا محالة سيؤدي إلى الحرب بينهما. وهذا يعني التالي: إما أن يكون هناك الجيش السوداني النظامي، أو أن تكون هناك مليشيا الجنجويد المسماة بالدعم السريع! ما يعني أن حالة زواج الضرار التي جمعتهما قد استنفدت كل عوامل بقائها وآن الأوان لطلاقٍ بائن بينهما. في هذه الحالة هناك طرف يحارب بحكم الضرورة لضمان بقائه، وطرف آخر لا يحارب بموجب أي ضرورة بخلاف احتياز المزيد من السلطة أو الثروة أو كليهما. هذا ما علينا تحديده بكل موضوعية!
فالآن إذا طلب حميدتي مخرجا آمنا لتشاد أو أفريقيا الوسطى، أو لو شق طريقه لوحده إلى هناك، فالحرب سوف تقف. لكن هذا الخيار غير متاح للجيش السوداني، وبالتالي في هذه النقطة تحديدا، يحارب الجيش السوداني من باب الضرورة. نقطة أخرى: إذا افترضنا أن الجيش السوداني قد تمكن من دحر مليشيا الجنجويد داخل الخرطوم، عندها لن تكون هناك أي حلول أمام باقي قوات الجنجويد غير التسليم أو مغادرة البلاد إلى دول الجوار الغربي من حيث أتت، أو كلا الخيارين معا. وبهذا سوف تنتهي الحرب. في المقابل، لو افترضنا ان مليشيا الجنجويد قد تمكنت من دحر وهزيمة الجيش السوداني داخل الخرطوم، فعندها لن تستسلم لها باقي الفرق والأولوية المنتشرة في كل السودان، بل المتوقع هو أن تتقدم تجاه الخرطوم لدكها فوق رؤوس الجنجويد. فعندها قطعا سوف تزداد وتيرة هروب أهلها بأكثر مما هربوا الآن وجيشهم لا يزال يحارب داخل الخرطوم، لكن قطعا ستبقى الغالبية، وهؤلاء سوف يصطفون مع جيشهم حربا وقتالا. وهذا يعني أن الحرب لن تتوقف باستيلاء الجنجويد على الخرطوم ولو سيطروا عليها بصورة كاملة، بينما استيلاء الجيش على الخرطوم بصورة كاملة يعني عمليا نهاية الحرب. وهذا بدوره يعني أن الجيش في هذه النقطة أيضا يحارب من باب الضرورة. وليس أدل على هذا من التفاف الشعب حول الجيش في هذه الحرب، ذلك ليس بالتهليل والهتاف له فحسب، بل بلجوء قطاعات الشعب إلى المناطق التي يسيطر عليها الجيش وليس فيها أي وجود لمليشيا الجنجويد. هذا مقابل عدم تهليل الشعب أو الهتاف متى ما مرت به أي قوات لمليشيا الجنجويد. فالجيش الذي يلتف حوله الشعب هو جيش يقاتل من أجل قضية شعب، وهذه أعلى درجات الضرورة. أما إذا جئنا لمليشيا الجنجويد فهم لا يحاربون من أجل أي قضية، بل من أجل حلم أيديولوجي اسمه “دولة الجنيد الكبرى” التي لا يمكن أن تتحقق إلا بتفكيك خمس دولة أعضاء في الأمم المتحدة على الأقل هي: السودان، تشاد، أفريقيا الوسطى، النيجر، ومالي. فتصوروا! ولكن على الأرض وفي الحقيقة العارية من كل مسوح الأيديولوجيا التي تزيف وعي هؤلاء المقاتلين، فإنهم يحاربون من أجل الغنائم الشخصية المباشرة (نهبا واغتصابا ونشرا للفوضى)، ذلك عبر تحقيق مجد أسري (سلطوي وثرائي) بحت لحميدتي وأشقائه بصورة مباشرة ثم لذوي قرابته بالدرجات. فهل مثل هؤلاء يحاربون من باب الضرورة؟
***
فما الحل؟ طبعا لا للحرب! ولكن هل هذه “اللاء” كافية لإيقاف الحرب؟ نحن هنا لا نتساءل عن جدوى الشعارات في إيقاف الحرب، فالشعارات مهمة للغاية لأنها تعكس إجماع الشعب. نحن هنا نسائل جدوى الشعارات الرغبوية، غير العملية. فشعار وقف الحرب ينبغي أن يتضمن نواة الرؤية لكيفية وقف الحرب. وهنا يؤكد البيان على أن الشعار الأمثل والعملي لوقف الحرب ينبغي أن ينطلق من ذات شعارات الثورة، ألا وهي: *الجنجويد ينحل* (ولا مجال للدمج)، *تشكيل حكومة مدنية انطلاقا من مجلس تشريعي ثوري من لجان المقاومة بنسبة لا تقل عن 70% ثم دستور انتقالي، وبعده تسمية رئيس وزراء ليشكل حكومته*، وبعدها *يعود الجيش للثكنات ليصبح تحت ولاية الحكومة المدنية* (راجع”روشتة الخروج من حالة انسداد الطريق” التي أصدرها *مؤتمر كوش* قبل أشهر عديدة. إذن شعار “لا للحرب” ينبغي أن يحمل داخله الحلول، لا أن يصبح مجرد شعار رغبوي، بل يجب أن يكون شعارا عمليا، رؤيويا.
***
وكما ورد في البيان فإن مسألة عامل الضرورة في اندلاع هذه الحرب أيضا مهم للغاية لدى تقييمنا للوساطات الدولية والإقليمية الرامية لوقف هذه الحرب. فأي دعوة وساطية لوقف الحرب لا تعالج عامل الضرورة فيها هي مجرد استثمار في الأزمة ودفع الأمور إلى ما هو أسوأ. وهذا يعني أن أي دعوة لإيقاف الحرب والعودة بالقوتين المتحاربتين إلى ما قبل يوم 15 أبريل 2023م يعني تجاهل عامل الضرورة، وبالتالي يعني عمليا شرعنة ثنائية القوتين العسكريتين المستقلتين عن بعضهما بعضا، ما يعني شرعنة هزيمة الجيش. ولهذا يتوجب أخذ الحذر من ترديد شعار “أوقفوا الحرب فورا”، دون أن يقف هذا الشعار على قدمين قويتين، هما الموقف الوطني والكيفية المؤدية إلى ذلك.
***
في الختام، يؤكد البيان على أن هذه الحرب تمثل نهاية السودان القديم، سودان دولة ما بعد الاستعمار، السودان المُهيمَن عليه من قبل الأيديولوجيا الإسلاموعروبية. ففي غيبوبتنا الهويّاتيّة، نفورا من أفريقيتنا وإزراءً لها، وجدنا أنفسنا قد تورطنا في دولة كل همها يتلخص في الأسلمة والاستعراب بوصفهما أدوات أيديولوجية وليست ثقافية. وهكذا صرنا منذ الاستقلال السياسي في عام 1956م نسقط من حالقٍ وبطريقة المتواليات العددية والهندسية، فكل نظام حكم كان أسوأ من سابقه. كل هذا حتى نصبح عرب العرب، فحُقّ علينا القولُ عندها:
يا أمةً ضحِكت من جهلِها العربُ!
وقد بلغ بنا الاشتطاط درجة ان تتخذ الدولة وتتبنى سياسيات رسمية لتغيير الخريطة الديموقرافية للشعب السوداني، مرةً بالتخطيط وعقد الاتفاقيات لاستجلاب وتوطين الفلاحين المصريين في الحوض النوبي، ومرة بالتخطيط لحل مشكلة البدون في الكويت بتوطينهم في دلتا طوكر والقاش، إلى أن بلغنا الحضيض الأسفل الذي لا يوجد دونه حضيض، ذلك باستجلاب مجموعات بأكملها من دول الجوار الغربي بزعم أنها أكثر رسوخا وقدما في العروبة من “زُرقة” (تعني عمليا “سود”) دارفور، فكان أن أعطتهم السلاح ووفرت لهم الغطاء السياسي، الحكومي، والعسكري، أرضا وجوا، كل هذا لطرد “الزُّرقة” من قراهم حتى يستوطن القادمون (الذين هم فعلا من أصول سودانية ومن حقهم أن تستقبلهم الدولة لدى عودتهم، لكن ليس بهذه الطريقة وليس على حساب أهل الأرض). فماذا كانت النتيجة؟ لدينا الآن 3 ملايين لاجئ في تشاد، وكذلك لدينا 3 ملايين نازح داخل دارفور، دون ذكر الذين نزحوا لباقي أقاليم السودان. وهكذا أيضا انفصل الجنوب، وقامت مصر باحتلال أرضنا في مثلث حلايب وتكالبت علينا دول الجوار، دون أن يثير هذا أي حساسية وطنية شعبية، وكأن كل هذه الرزايا والبلايا تحدث في بلاد الواق واق، وليس في سوداننا الحبيب. وفي الرأي، كل هذا لا لشيء إلا للوقوع تحت هيمنة الأيديولوجيا الإسلاموعروبية التي زيفت وعي قطاعات عريضة من الشعب (بيمينه ويساره)، كان من نتيجتها بروز حكومات أقرب إلى الجنون منها إلى العقل. فماذا كانت النتيجة؟ ها هي النتيجة ماثلة أمام الأعين! والحكمة البسيطة تقول بأنه لا تقم بتربية “جنا المرفعين” في منزلك، حتى إذا كبر وأراد أن يأكلك، فزعت إلى الجيران تطلب منهم أن يقتلوا المرفعين.
***
لكن نهاية السودان القديم لا تعني تلقائيا تدشين مرحلة السودان الجديد. هنا يلفت بيان *مؤتمر غ* إلى أننا ربما كنا مقبلين على المرحلة بين المرحلتين، أو ما أسماه قرامشي “عصر الشياطين” the age of demons، عندما قال بأن الليل قد انقضى أجلُه، والصبح شمسُه تأبى أن تشرق، وما بينهما هو عصر الشياطين. فالسودان الجديد يحتاج إلى المزيد من العمل القائم على التنظيم الجيد، القائم بدوره على الرؤية الناجعة. فالتاريخ يُصنع عندما تجتمع ثلاثة عوامل: *الرؤية .. التنظيم .. العمل*. فتوفر الرؤية وحدها ليس بكفيل بتحقيق السودان الجديد، وكذلك إذا توفر التنظيم دون عمل. وفي الحقيقة إزاء هذه المعضلة لا يملك المرء إلا أن يقارب المستقبل بكل الأمل، لكن بلا أي نوازع رغبوية. فالحقيقة الماثلة للعيان اليوم هي أننا سوف ندخل في حربٍ اجتماعيةٍ ضروس ما بين دعاة السودان الجديد والفكر الثقافي الآفروعمومي والعربفونية المتصالحة مع حقيقة أننا أفارقة سود، وما بين الخلايا النائمة للأيديولوجيا الإسلاموعروبية الغاشمة التي اوردتنا موارد الهلاك؛ وهؤلاء الخلايا هم أشرُّهم جميعا، ذلك لأنهم بموجب زيف وعيهم قد لا يدركون أنهم إسلاموعروبيون، فتراهم يجولون بين صفوف الآفروعموميين؛ وحتى إذا أدركوا حقيقتهم، تراهم أنكروها ظاهرا، عملوا بموجبها سرا.
إذن فالمعركة العسكرية عندما تضع أوزارها، غالبا ما ستبدأ معركة قوية وعنيفة ما بين الثقافة الآفروعمومية من جانب وما بين الأيديولوجيا الإسلاموعروبية الغاشمة من الجانب الآخر. وكل الأمل منعقد على جيل الثورة في التعجيل بتحرير الشعب السوداني العظيم من ربقة الأيديولوجيا الإسلاموعروبية في أقصر وقت وبأقل تكلفة ممكنة.
*MJH*
الخرطوم – 10 مايو 2023م