العمارات السوامق: جدل المركز والهامش في التطبيق _ (1-2)

0 107

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

ذاع قبل أسبوع فيديو لجندي من “الدعم السريع” من داخل منزل هجره أهله. وراح يستعرض محتوياته للمشاهدين. فبعد البسملة والصلاة على النبي نادى “أما بعد أيها الشعب السوداني الكريم”، وبعد توجيه كاميرا تليفونه الجوال على أثاثات البيت الفخمة قال “شوف الكيزان (الإسلاميين) ساكنين كيف ونحن كيف”. واسترعت انتباهه كؤوس كثيرة في دولاب وقف عنده. فتساءل مشمئزاً عن صفتها ولماذا هي هنالك. وتابع أن “الناس لا تملك حق المأكل والمشرب وهؤلاء الكيزان في رغد من العيش. فمال الشعب السوداني كله مصبوب هنا والناس لا تجد ما تأكله أو تشربه”.
اتضح لاحقاً أن المنزل للاعب المريخ الدولي سامي عز الدين (1957-2005)، وأن الكؤوس الغامضة هي مكافآته على إحسانه لعبة كرة القدم. ومع ذلك فحقيقة أن البيت كان لغير كوز لا تلغي حقيقة تظلم هذا “الدعامي” (نسبة الدعم السريع) من تفاوت الحظوظ في المعاش جراء صفوة حاكمة في الخرطوم استأثرت بغنيمة الحكم ونعمائه منذ الاستقلال وتركت بقية الشعب، بخاصة في أريافه التي جاء منها ذلك الدعامي، في الضراء. وليس حكم الإنقاذ (1989-2019) إلا السنام الطافح من الحكم الأعوج في الخرطوم منذ استقلالنا في 1956.
حين نسمع عن النهب المسلح لبيوت أهل اليسار من قبل بعض قوات الدعم السريع واحتلالها فلا يستقيم صرفها كـ”تجاوزات فردية”، كما نبه مدني عباس مدني وزير التجارة في الحكومة الانتقالية الأولى عام 2019. وهي ليست “أخطاء منهجية مقصودة” أيضاً كما بدا له. فأقوم السبل لفهمها النظر إليها كثقافة سياسية عن التفاوت في الرزق بين السودانيين جرى الترويج لها بكثافة خلال العقود الأخيرة في خطاب اشتهر بـ”جدل المركز والهامش”. ومن أبرز منظريه أبكر آدم إسماعيل، وهو من صفوة الحركة الشعبية لتحرير السودان. ومن رأيه أنه جاء أهل الريف المفقر من غير الجماعات العربية المسلمة، “الإسلاموعروبيون” على النيل الأوسط، إلى المدن بفعل عوامل الجفاف والتصحر التي أخلت يدهم من سبل كسب عيشهم. وكانوا قبل هذا الضر في فضائهم رعاة ومزارعين قليلي الصلة بالحكومة نفسها. وما إن جاءوا إلى المدينة حتى اكتشفوا الموانع الهيكلية التي تحول دون حيازتهم على أي مما يحوزه “الإسلاموعروبيون”. فهم مستبعدون من السلطة والثروة بشكل مؤسسي راجح لمركز إسلامي وعروبي. فضاقت بنازحي المدن هؤلاء الوسيعة صبراً حتى اضطروا لحمل السلاح ليعطيهم المركز نصيبهم من كعكة الوطن صاغراً.
ولسبب ما صار المنزل في عمارات الصفوة “الإسلاموعروبية” هو مجاز ثقافة هذا الحسد الريفي للمدينة لو شئت. فلا ينسى أبكر نفسه وهو في غمرة حديثه النظري العالي عن ضراء الهامش من استصحاب مجاز المنزل في محاضراته للسامعين. فقال إن “هؤلاء المهمشين استرعتهم المدينة بعمارتها الطويلة، وأنوارها الساطعة، وفتياتها الجميلات. وزاد بأنك لن تجد في أحياء المنشية والعمارات الراقية مهمشاً إلا كسائق عربة لأسرة مميزة أو خادم. وهو بغير ذلك حرامي”.

ونواصل

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.