كتب: قصي همرور
.
رغم اشتهاره كاسم كبير في ما يسمى “دراسات السلام” (وأحيانا يوصف بأنه مؤسس هذا الفرع من الدراسات الاجتماعية)، إلا أن ليوهان غالتونق (Johan Galtung) كتابات أخرى، قديمة، مهمة ومؤثرة في مجالات التنمية. من أهم كتاباته – والتي تعرفت عليه عبرها – دراسة نشرها في 1979 من دار نشر الأمم المتحدة، جراء تكليف من سكرتارية الأونكتاد (مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية)، بعنوان “التنمية والبيئة والتكنولوجيا: نحو تكنولوجيا من أجل الاعتماد الذاتي”. الدراسة ذات بُعد فلسفي واستراتيجي بخصوص دور التكنولوجيا في التنمية (وقد استعانت بها دراسات لاحقة حول نفس الموضوع).
في إحدى الفقرات اللطيفة في دراسته تلك، يتحدث غالتونق عن أحد الفوارق اللافتة للنظر بين مهندسي (وفنّيي) التصميم ومهندسي الصيانة، في علاقتهم مع التكنولوجيا: فمهندسو التصميم لديهم مساحة من ابتكار الحلول الجديدة لمشاكل وتعقيدات ماثلة، أي لديهم فرصة للإضفاء الفكري وإعمال الخيال في عملهم، وهم عندما يقدمون تصميما متميّزا فإنهم ربما يلقون رصيدا من الإشادة بالعمل والعائد الرمزي/المعنوي، إضافة لشيء من التخليد في إهاب التكنولوجيا الجديدة التي ربما تنتشر وهي تحمل بصماتهم. أما مهندسو الصيانة، فرغم أنهم مهمون بنفس القدر لفعالية الهياكل والعمليات الهندسية، إلا أنهم لا تتوفر لهم نفس تلك المساحة الابتكارية المذكورة آنفا، كما أنهم لا يُذكَرون كثيرا إلا في حالات المشاكل أو في حالة أن بعضهم لم يؤد دوره جيدا. كذلك، فعمل الصيانة أكثر رتابة إذا ما قورِن بالتصميم، لكنه في الواقع عمل الأغلبية من المهندسين والفنيّين، ولأسباب مفهومة، فالهياكل والعمليات الهندسية القائمة، في أي مجتمع حديث، أهي إجمالا أكثر من الابتكارات والحلول التكنولوجية الجديدة فيه، في أي فترة زمنية. لذلك ففي أي أوضاع عامة، مستقرة نوعا ما، سنجد أن أغلبية المحترفين هؤلاء لهم علاقة رتيبة ومتوقعة عموما مع التكنولوجيا في المجتمع. هذا ليس أمرا إيجابيا أو سلبيا بالضرورة، إنما يعتمد على السياق.
ثم تأتي تفاصيل أكثر، يسمح بها النقاش، منها مثلا أن مهندس التصميم يمكنه أن يقلل من مشاكل الصيانة لاحقا، عبر تصميم أفضل وأكثر إحكاما واعتبارا للمشاكل المتوقعة مستقبلا. كما أن مهندس الصيانة يمكنه أن يكتشف مشاكل ذات اعتبار في تصميم التكنولوجيا نفسه عبر التعامل المستمر مع مشاكل تلك التكنولوجيا (أكثر من تعامل مهندس التصميم معها)، بما يستدعي ويحفّز التفكير في حلول تكنولوجية جديدة. لذلك فلا بد أن يكون هنالك خط تواصل باتجاهين بين أهل التصميم وأهل الصيانة، يحيث يغذي كلاهما عمل الآخر–خاصة وأنه بالإمكان أن يتحوّل أحدهما إلى منطقة الآخر، في أي وقت وأي ظرف.
——–
المقدمة أعلاه كانت مهمة، لنقول إن وضع السودان، في مستهل الحراك الثوري الموسوم بديسمبر 2018، يشبه حصول ظرف استثنائي، تتداخل فيه الدوائر بين التصميم والصيانة. الدولة السودانية، والترتيبات السياسية-اقتصادية فيها، بلغت حالة حرجة جدا، رأى الكثير أنها تتطلب مراجعات هيكلية وحلولا جديدة، أي ثورة، بينما كانت هنالك قوى مقتنعة ومتحركة في اتجاه أننا بحاجة إلى مراجعات استراتيجية وبعض الترتيبات السياسية الأفضل، أي إصلاح. لنقل إن الثورة صنو التصميم، والإصلاح صنو الصيانة.
من الواضح أن القوى السياسية، المدنية، التي اختارت طريق الصيانة، استطاعت ركوب موجة الثورة وتقديم نفسها كممثلة لها، ثم ترتيب أجندتها السياسية ومساعيها التفاوضية ناحية الصيانة. اللطيف طبعا أنهم كانوا يقولون ويكررون إن هذا هو مطلب الثورة نفسه. على العموم، حاليا نسمع أصواتا منهم يقولون إنهم كانوا حتى آخر لحظة يحاولون تفادي هذه الحرب، بكل ما أوتوا من أدوات سياسية عقلانية، لأنهم كانوا واثقين من حدوث الحرب إذا لم ينجحوا في العمل السياسي (يقصدون العمل وفق طريقتهم في السياسة).
من ناحيتنا، وعبر كتابات متواصلة، منذ بدايات 2019 وحتى مؤخرا، يمكن أن نقول، باختصار: نعم، كانت هنالك فرصة لتلافي هذه الحرب، لكن ليس بطريقة السياسيين الإصلاحيين. كانت الفرصة متوفّرة في مرحلة القدرة على اختيار المضي في طريق التصميم، أو إعادة بناء الدولة السودانية، وهذا الطريق حانت فرصته الكبيرة مع أولى الانتصارات الكبيرة للحراك الثوري، في أبريل 2019، ثم بدأ باب الفرصة يتزحزح نحو الانغلاق مجددا مع كل خطوة من خطوات المضي في طريق الإصلاح (الصيانة)، حتى أُغلِق مع انقلاب 25 أكتوبر 2021، أما ما كان بعد ذلك التاريخ فلا يعدو أن يكون تحصيل حاصل. ضاعت فرصة تفادي الحرب – أو تحجيمها لدرجة كبيرة أو تغيير قواعدها – عندما ظنت القوى السياسية أن هنالك ثمار مستدامة تُرجى من مشاركة المجلس العسكري الانقلابي في السلطة الانتقالية، وأنه ليست هنالك فرصة أخرى للثورة كيما تتقدم بدون هذه المشاركة؛ أي فسّروا انقطاع نَفَسهم هم بأنه انقطاع لنَفَس الحراك الثوري نفسه، وعلّلوا ضيق أفقهم وخيالهم، وضيق مساحة الابتكار عندهم، بأنه معادل لأفق وخيال الحراك الثوري، بينما لم يكن الأمر كذلك. لم يكن الأفق والخيال الثوري بهذا الضيق، إنما ذلك الضيق متعلق بهم هم – السياسيين – فحسب. جلبوا للجماهير الثائرة نصف ثورة، ثم اجتهدوا كثيرا في بيعها لهم على أنها ثورة ناضجة، كاملة، مكمّلة، وتمضي في طريق الظفر، تحت قيادتهم.
لا ننسى أن نفس القوى السياسية التي تتحدث اليوم عن أنهم كانوا يحاولون تجنب الحرب هذه حتى آخر لحظة، عبر ما سُمّي بالاتفاق الإطاري، كانت تدافع بقوة عن الشراكة العجيبة في السلطة الانتقالية، ووفّرت خدمات إعلامية مجانية للعسكر وللدعم السريع (وللدعم السريع، أو الجنجويد، بالذات، لأن هذا كان الأكثر احتياجا لتلك الخدمات)، بل وفّرت للدعم السريع المساحة السياسية التي تمددت فيها قوتهم ونفوذهم في الفترة الانتقالية (وساهمت معهم في توفير تلك المساحة قيادة القوات المسلحة، بصورة واضحة وبأدوات قانونية وإعلامية واقتصادية، لا يمكن تطفيفها أو نسيانها). اليوم يتحدثون بلسان أنهم كانوا يرون العاصفة قادمة منذ البداية وحاولوا تجنبها، وهذا لا يستقيم. نحن لا نريد ان نذكّر الناس بهذا الأمر لمجرد التذكير، بل لأنه يوضّح إشكالية التفكير والقرار الأساسية لدى القوى السياسية هذه، وهي نفس الإشكالية التي تجعلها حتى الآن عاجزة عن فهم الواقع بما يكفي من الحكمة أو اتخاذ قرارات شجاعة بما يكفي (ومن العجب أنهم يصفون مواقفهم تلك بأنها هي الحكمة وهي الشجاعة).
تم ترويج الشراكة الانتقالية على أنها حقن للدماء، فما لبث أن استمر إرهاق دماء المدنيين، على عدة مراحل وعبر عدة أحداث ومحطات وحشية، في ظل الشراكة الانتقالية، وبعض فضها (بفظاظة) وبواسطة سلطات مشرعنة، واستمر إرهاق دماء المدنيين وانتهاكهم حتى وصلت الأمور لما وصلت له الآن، وفي كل مرحلة كانت تلك القوى السياسية تقدم المزيد من التنازلات تحت مسمى الحكمة والشجاعة، فهل لا ينبغي لنا بعد أن نتساءل حول جدوى ما فعلته تلك القوى من تقديم كل التنازلات غير الثورية، نيابة عن الحراك الثوري، في كل مرحلة من مراحل انحدار الثورة إلى نصف ثورة، ثم إلى انتكاس الأوضاع وانعكاسها تقريبا الآن؟
الحديث هذا عن السياسيين السودانيين، أو القوى السياسية السودانية التقليدية، المدنية، التي هيمنت على المشهد السياسي في السنوات الأخيرة. ليس في هذا الحديث تخوين أو تنابز، إنما إشارة واضحة ومباشرة لقصور القامات السياسية (الفكرية والتنظيمية) لتلك القوى، خاصة قياداتها؛ قصورٌ كلّف الشعب كثيرا (خاصة وأنه شعب يستحق قامات أفضل من هذه بكثير، كما أظهر في حراكه الثوري). هذه القوى السياسية اتضح أنها لا تزيد كثيرا الآن على لافتات وظلال من الماضي، لا يجمعها قولٌ ولا يعزّيها أمل.
مع اتضاح، وانفضاح، خط الإصلاح والصيانة، في فشله المجلجل في الاستعداد للسيناريوهات الكالحة، وفي التصدي لها، رغم ترويجه لنفسه دوما أنه الخيار الوحيد لتفاديها أو الخروج منها، يصبح من الحكمة والشجاعة الآن أن نلجم هذا الخط (وهو ما زال يصر على الاستمرار في ادعاءاته بأن المخرج والملاذ عنده)، ونعود بقناعة أكبر إلى خط الثورة وإعادة بناء الدولة السودانية؛ إعادة تصميمها. على العموم، لا يمكن بحال من الأحوال العودة بعد الآن إلى سودان ما قبل هذه الحرب، لكن هذا لا يعني أننا سنتحرك مباشرة نحو سودان جديد، فكما قال قرامشي: “القديم يحتضر، والجديد لم يولد بعد” ثم أتبع ذلك بقوله أن ما بين الاثنين “عصر الوحوش”. لكي نتحاشى عصر الوحوش، علينا الإسراع في ميلاد الجديد…. وللحديث شجون.