إنها الحرب يا غبي…!

0 163

كتب: فيصل محمد صالح

.

العبارات الواردة في العنوان ليست نوعاً من السباب أو الإساءة، بل هي تعديل بسيط لجملة «إنه الاقتصاد يا غبي» (It is Economy, Stupid) التي صارت شعاراً أساسياً لحملة بيل كلينتون الانتخابية عام 1992، صاغها المخطط الاستراتيجي للحملة جيمس كارفيل لتكون أحد شعاراتهم ضد حملة الرئيس الأسبق جورج بوش الأب، الذي ركز على الأمور السياسية والعسكرية وأهمل الاقتصاد، وفعلاً فاز بيل كلينتون بولايتين انتخابيتين معتمداً على النجاحات الاقتصادية.

تكثر الأحاديث والكتابات عن الأوضاع المؤسفة التي يعيشها السودان، وقد ينسى بعض الناس ربطها بحالة الحرب التي يعيش في ظلها. لا تدور الحرب بين مجموعات مسلحة تتقاتل في ما بينها، بينما نتفرج نحن على ذلك من خلال التلفزيون وكأنها مباراة كرة قدم، كلا، تتحرك آلة الحرب داخل المجتمع كله، تتجول في شوارعنا وأحيائنا ومنازلنا، وقبل ذلك وبعده في العقول، وهي تؤثر بالتالي في كل جوانب حياتنا المادية والمعنوية، وتترك آثارها على قيمنا وسلوكياتنا وأخلاقياتنا.

منذ بداية الحرب كان هناك تيار قوي يقف ضد الحرب التي استمرت إرهاصاتها لأسابيع قبل أن تندلع، وهو تيار يدرك التعقيدات الصعبة التي تقف أمام الاتفاقات والمواثيق السياسية، لكن كان يرى أنها رغم صعوبتها وبطء تحققها، هي الخيار الأفضل من الحرب. كثير من القوى المدنية والسياسية انخرطت في عملية سياسية نتج منها الاتفاق الإطاري الذي وقع عليه الجنرالان برهان وحميدتي، ونص على توحيد القوات المسلحة واحتكارها للعنف المحكوم بالقانون، وصار هذا الاتفاق هو خيار القوى السياسية والمدنية الذي اعتمدته بديلاً لخيار الحرب.

في المقابل كان هناك تيار يبشر بالحرب وينادي بها ويعدها حرب الخلاص الوطني، ويصنف من يقفون ضدها بأنهم يصطفون خلف «الدعم السريع»، رافعين شعار من لا يقف معنا فهو ضدنا. يضم هذا التيار مجموعات عسكرية ومدنية تقول إنها تريد توحيد المؤسسة العسكرية في القوات المسلحة وحدها وإسقاط الاتفاق الإطاري، وتعتقد أن لا سبيل لذلك غير محاربة ودحر «قوات الدعم السريع»، وبعض منهم يريد الاستثمار في حالة الحرب أياً كانت نتيجتها لأنها تساعده على استعادة وجوده في الساحة السياسية وربما السلطة الحاكمة، وهؤلاء هم المنتمون لتيار الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني، وتيار آخر ينظر للمسألة من منظار عرقي وإثني ويظن أن وجود «قوات الدعم السريع» بتكوينها الإثني الظاهر يخل بالتوازن الإثني والعرقي في البلاد، وبالتالي لا بد من هزيمتها واستعادة هذا التوازن.

الآن والحرب تكاد تكمل شهرها الثالث اتضحت مجموعة من الحقائق لمن يؤيدون الحرب ومن يعارضونها:

– تستطيع أي قوة مسلحة أن تعلن بداية الحرب، لكن يستحيل أن تعرف موعد نهايتها، هكذا يعلمنا التاريخ البشري والإنساني وتاريخ الحروب الصغرى والكبرى في العالم. ففي تقدير مشعلي هذه الحرب من الطرفين أن الحرب ستستغرق أياماً، وها هي الأيام تمضي بالعشرات من دون أن تظهر نهايات الحريق… إنها الحرب.

– تمتلك مجريات الحرب ميكانزماتها الخاصة، التي قد لا تتوافق بالضرورة مع ما يريد لها مشعلوها، فتتحرك في مساحات لا يسيطر عليها الطرفان، وقد تصل مرحلة يريد لها الطرفان الأولان التوقف، لكن خلال الحرب ظهرت أطراف أخرى لا تريد لها التوقف… إنها الحرب.

– لا تدور الحرب في مساحات مرسومة كما يبدو في البدايات، إذ سرعان ما تنطلق مثل النار التي صادفت رياحاً أخذتها معها نحو مساحات جديدة، وهكذا قد تتحول حروب النفوذ السياسي أو الموارد إلى حروب هوية، تتقدم فيها العوامل الإثنية والعرقية على بقية العوامل… إنها الحرب.

– تتمدد كذلك كلفة الحرب البشرية والمادية بأكثر مما توقعتها الأطراف المتحاربة، فيسقط آلاف الضحايا من المدنيين، ويتم تدمير البنية الأساسية والاقتصادية والمصانع والمؤسسات العامة وممتلكات المواطنين، وقد تتغير لهذه الأسباب المواقف الشعبية من الحرب، بعد أن يتم اختبار المنطلقات النظرية على ضوء الواقع العملي… إنها الحرب.

– لا تتوقف كلفة الحرب عند الخسائر الاقتصادية والمالية، بل تمتد للنظام الاجتماعي وقيمه وأخلاقياته العامة وتخضعها لامتحان عسير، ونتائج هذا الاختبار ظاهرة للعيان في التناقضات الكبيرة في الشخصية السودانية التي ظهرت أثناء الحرب، وسقوط كثير من المسلمات عن المجتمع السوداني، فمثلما هناك اقتصاد الحرب الذي يديره صيادو الفرص وتجار الحرب والانتهازيون، فهناك أيضاً نظام قيمي واجتماعي جديد لمجتمع الحرب، قد نتهرب من مواجهته الآن، لكن علينا حتماً أن نتوقف عنده ونراجعه في وقت ما.

إنها الحرب… إنها الحرب يا غبي…!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.