الصفوة السودانية والحرب: بئر معطلة وقصر مشيد

0 189
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
لو اقتصر علمك عن الحرب القائمة في السودان على رواية كل من الإسلاميين (الفلول) و”الحرية والتغيير” (القحاطة) عنها، لخلصت إلى أنهما وحدهما من في ميدان وغاها لا غير. فلا يخالط قناعة كل منهما مثقال ذرة من الشك في أن الآخر هو من أشعل الحرب. ودليل كل على وزر الآخر صعب التصديق. فيقول الفلول إن القحاطة قالوا إما أن يخضع الجميع لاتفاقهما الإطاري في الخامس من ديسمبر (كانون الأول) 2022 الذي هو شراكة بينهم والقوات المسلحة و”الدعم السريع” أو الحرب. ولم يتفق الناس على الإطاري فشن القحاطة الحرب كما قالوا، أو دبروها مع “الدعم السريع” بصورة ما. ولا أدري كيف يتهم بإشعال الحرب من قال لكتلتين عسكريتين متشاكستين تعالوا إلى كلمة سواء أو أن الحرب هي العاقبة. تلك بداهة لا تهمة.
أما القحاطة فيتهمون الفلول ببدء الحرب بالنظر إلى عبارات لبعض زعمائهم عن أن الاتفاق الإطاري لن يمر إلا على أجسادهم. ولا أعرف إن كف الفلول عن مثل هذا التهديد منذ سقوط نظامهم عام 2019، فهو “سعر سوق” كما نقول في السودان. فكل مبادرة لتغيير ما في البلاد بواسطة الحكومة الانتقالية كان الفلول قرروا أنها لن تمر إلا من فوق أجسادهم. ولم يصدق تهديدهم من قبل فكيف اختلف الأمر هذه المرة؟ وتلك منبريات لا تجرم.
تصدر هذه الاتهامات المتبادلة عمن بعث بالحرب ذميمة عن امتياز لهذه الصفوة من فلول وقحاطة التي احتكرت السياسة الطلابية منذ نشأتها في المدارس العليا (جامعة الخرطوم الحالية 1946). وترحلت بهذا الاحتكار من حرم الجامعات والمدارس إلى السياسة الوطنية في أحزاب مثل “الجبهة الإسلامية القومية” (1985) أو “الحزب الشيوعي” (1946) أو “حركة المستقلين” التي يمثلها المؤتمر السوداني اليوم في الحقل الحزبي. وزعمت هذه الصفوة بأنه بوسع أي منهما إشعال حرب مجرد وهم. فلم تعد لأي منهما هذه المروءة أو الأسر على القوى المسلحة الآخذة بخناق بعضها بعضاً إلى يومنا.
وتضاؤل نفوذ هذه الصفوة الذي يعفي أي قسم منها عن شبهة إشعال حرب راجع لإفلاس مشاريعها السياسية التي أرادت فرضها من عل بانقلابات عسكرية انتهت إلى ديكتاتوريات تخلص منها السودانيون بكلفة فادحة. وليست حرب اليوم إلا ذروة فيها. فغامر اليسار بمشروعه الحداثي بانقلاب البكباشي جعفر نميري عام 1969 ليسقط نظامه عام 1985. وارتجل اليمين مشروعه الإسلامي بانقلاب العميد حسن أحمد البشير عام 1989 ليسقط عام 2019. فزعمُ الفلول والقحاطة عن تدبير واحدهما أو الآخر لهذه الحرب أضغاث من الامتياز القديم. فمن ثقوب وهنهما الفكري تسرب العسكر وهرج السلاح لعقود عندنا. وبقي الفلول والقحاطة بعد سقوط مشروعيهما “بئر معطلة وقصر مشيد” كما في القرآن، غاض المعنى وبقي المبنى.
النزاع الناشب حول الدولة الوطنية في السودان بين القوات المسلحة والدعم السريع ليومنا ولأيام خلت حق. ولكن صفوتنا تستشئمه لأنها لا تملك أدوات تحليله بما يتجاوز توزير طرف منها بتعكير صفاء الأمة بالفتنة والحرب. ولربما هذا ما ساق فريقاً كبيراً منها لوصف الحرب بـ “العبثية” و”الملعونة”. فانفراط السلاح المشاهد في الأيدي سواء في “الدعم السريع” أو الحركات المسلحة مما يصادم بالطبع مفهوم ماكس فيبر الذي عقد بين الدولة واحتكار السلاح عقداً لا تشرك فيه أحداً. ومعلوم أن فيبر عقد للدولة احتكار السلاح في ظروف اضطراب غشي ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى تفشت به الفرق المسلحة المتمردة من كل شاكلة. ولما لم ينجح الجيش حديث التكوين في قمع هذه القوى المتمردة استعانت الدولة بواحدة منها ناقمة على اليسار لخذلانه الجيش الألماني خلال الحرب لوضع حد لتلك التمردات بالقوة. وبالطبع طعن ذاك الحلف مع تلك العصبة المسلحة، مما يعرف في الأدبيات باللاعب المسلح خارج الدولة (non-state violent players)، في صمامة الدولة، وفضح عجزها عن إدارة العنف بنفسها مما هز شرعيتها.
لكن علم الدولة بعد فيبر لم يتفق معه في جعل العنف الجسدي حكراً على الدول. فقالوا إن الدول تاريخياً درجت على توظيف خدمات للعنف من صفقات مع المرتزقة والقادة القبائليين وأصحاب الجيوش الخاصة. وهذا التوظيف مع ذلك لا ينتقص من النظام السياسي. فصار الإشكال في مباحث هؤلاء العلماء ليس عن فشل الدولة في قمع التحديات المسلحة وحسب، بل في الصور التي يستخدمها النظام السياسي لهذه العصب المسلحة لأغراضها أيضاً. وبعد أن اتفق للعلماء أن شوكة الدولة “شحيحة” صار موضوع مباحثهم هو “السيادة الحطام” التي تتبقى للدولة من فرط تنازعها مع اللاعبين المسلحين. وشمل هذا النزاع مع الدولة حتى الخدمات التي نعدها حكراً لها مثل الرفاه والتعليم والمشافي.
ولم تقارب صفوتنا هذا المفهوم الذي يركز على ديناميكية استعانة الدولة باللاعبين المسلحين من الخارج لأنها لا تزال عند الاحتجاج على هذه الاستعانة ووجوب الامتناع منها كحرام سياسي. فتجدهم يعودون في باب احتجاجهم على هذه الاستعانة لتسليح رئيس الوزراء عام 1986 السيد الصادق المهدي لأعراب المسيرية في جنوب كردفان، ممن عرفوا بـ “المراحيل”، لقتال الجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة العقيد جون قرنق بنشاطاته المتاخمة لحدودهم. يغيب عنهم أنه ليس من دولة مركزية في السودان لم تستعن بمثل هؤلاء اللاعبين. فاستعانت دولة الفونج (1504) بشعب يعرف بالهمج ليقمع تمرداً عليها في إقليم كردفان. وقويت شوكة الهمج بعد استعادة الإقليم لسلطنة الفونج فاستولوا على الحكم وأبقوا السلطان رمزاً لا قيمة له. كما استعانت الدولة التركية – المصرية (1812-1985) في الخرطوم بشعب بني جرار لحراسة الحدود بين كردفان ودارفور المستقلة آنذاك في وجه هجمات عربان دارفور على كردفان. واتبعت المهدية التي قام جيشها على رايات القبائل خطة توظيف بعضها كم ذات الثأرات على خصمها لتلاحقه وتهلكه. كما استعان الاستعمار الإنجليزي (1898-1956) بشعب الكبابيش في حملته على السلطان علي دينار في دارفور عام 1916. واستعان نظام الفريق عبود (1958-1964) بشعب المورلي لقتال أول حركات القوميين الجنوبيين المسلحة عام 1963، ووظف البشير قطاعاً من شعب “النوير” من ذوي العداوة مع شعب “الدينكا”، الذي منه غالب جند الحركة الشعبية الجنوبية وقائدها قرنق نفسه، بقيادة فاولينو ماتيب لحراسة آبار النفط ومستودعاته دون هجمات الحركة.
وهكذا فليست استعانة البشير بحميدتي ودعمه السريع نشازاً، والأمر على ما رأينا، لا في الممارسة التاريخية للدولة السودانية ولا في فقه الدولة كما تواضع عليه علماء السياسة بعد فيبر. لكن الفارق بين الاستعانة بـ “الدعم السريع” واستعانة السيد الصادق المهدي بـ “المراحيل” نوعي، فكانت تلك العصب المسلحة التي تستنجد الدولة بها، مثل “المراحيل”، تنحل بعد قضاء مهمتها ونيل جائزتها. أما البشير فجعل “الدعم السريع” مؤسسة من مؤسسات الدولة النظامية بقانون عام 2017 المجاز من المجلس الوطني. وغير خاف أنه كان خشي من الجيش نفسه أكثر من خشيته الحركات المسلحة المناهضة لحكومته. وأراد من “الدعم السريع” أن يكون لحماية نظامه مثل حرس القذافي الوطني، بينما يتجوف الجيش ويبقى اسماً. فسقط البشير ولم يبلغ ذلك التجوف تمامه.
ومن أبواب استدبار صفوتنا فقه الدولة التذرع بالمقارنات العشوائية بيننا وبين آخرين في خراب الدول. فهم إما حسدوا بلداً على استقراره ونمائه أو تعوذوا من بلد لاضطرابه وتخلفه. فرمقوا إثيوبيا ورواندا بعين الغبطة. وتعوذوا، من الجانب الآخر، من مصائر ليبيا وسوريا واليمن بعد ثوراتها. ولا يبدو أن أزمة إثيوبيا الوطنية بعد تمرد إقليم تيغراي ومآسيه قد زكت لهم مقولة أن “ليس كل ما يلمع ذهباً”. وأن قضية بناء الدولة الإثيوبية لا تزال مشروعاً لم يكتمل. وكان في استعانة رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد بميليشيات الأمهرا في حربه ضد “تيغراي” نذراً على صحة أن الدولة، حتى ولو بدا استقرارها، شحيحة تنتظر أن تستكمل عدتها متى ادّلهم الخطب. وفي هذا الباب أيضاً تجد صفوتنا مشدوهة ببقاء الهند على سنّة الديمقراطية لا تزال في حين تسربت من بين أيدينا في السودان. ولم يغير من عقيدتهم في الهند صعود القومية الهندوسية لعقدين وأكثر وتنمرها على مسلميها مما يؤرق الضمير العالمي ويهبط بالهند في مؤشر الديمقراطية بمتوالية هندسية.
وتجد الصفوة من الجهة الأخرى ترتعب من مثل مصير ليبيا بعد ثورتها بغير أن تحقق إن كان حالنا من حالها. فمعلوم أن ليبيا جاءت إلى ثورتها وجيشها شبح أو طلل حتى سماه باحث في الشأن بـ “المجوف”. وأراده القذافي كذلك ليمكن لحكمه من طريق فرق الحماية الخاصة والحرس الوطني وهذا خلاف وضعنا في السودان لأن قواتنا المسلحة جاءت للثورة كياناً واحداً مهما كانت مآخذنا عليها وعلى قرينها “الدعم السريع”. فلم تنفرط فيها سلسلة القيادة ولم تعضّها القبلية بنابها مثل ما حدث في ليبيا التي فشلت حتى بعد الثورة في بناء مؤسسة عسكرية أمنية مستحقة الاسم. ونشأت لجان المقاومة التي أطاحت بالقذافي على كره للجيش كمنتج للقذافي. فاحتلت معسكراته وحصلت على معداته كغنائم. ولم تنجح هذه اللجان في لم شملها داخل كيان عسكري أمني مؤسسي. ولم يخطر لها ذلك لأنها تكونت على أسس قبلية وإثنية أو لكل مدينة على حدة.
اختارت صفوة الفلول والقحاطة طريقاً مختصراً لتفادي استصحاب فقه الدولة لفهم ديناميكية تصدع دولتهم الحادث أمام ناظريهم إلى ما يحسنونه ويدمنونه وهو خناق واحدهم الآخر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.