تعليقات على دفاتر الحرب وأقوالها: بين “غنماية” البرهان و”أيديولوجيا” حميدتى
وفيما تدخل الحربُ بين الجيش السّودانىّ وقوات الدّعم السّريع شهرها الرابع، دون أنْ يلوح فى الأفق خيطٌ رفيعٌ من الضوء، يتوقّعُ الكثيرون من القادة كلاماً يكشف عن طرائق تفكيرهم وحساباتهم الدّقيقة لماجريات الأحداث، ولما ستؤول إليه، سواءً فى حالىْ النّصر أو الهزيمة، لكليهما. ولأنَّ الشهر الماضى كان ثقيلاً عسكريّاً، فإنَّ منطوق قادة الطرفين ينبغى أنْ يكون كذلك. فى العجالة، هذه، سأحاول أنْ أقف على خطابين للقائديْن، أحدهما عفوىّ، غير مخطّط له، والآخر مكتوب ومسجّل، تمَّ نشرهما على نطاق واسع. وذلك بغرض الوصول إلى ما يمكنُ أنْ يكون عتبةً صلدةً لقراءة ما تحمله الشهور القادمة من أحداث ومسارات.الخطاب الأوّل هو – بالطّبع – بحسب التّراتبيّة – للفريق أوّل عبد الفتّاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الإنتقالىّ، والقائد العام للجيش. نسمّيه “خطاباً”، على الرّغم من أنّه مقطع فيديو قصير، دخل فيه قاعةً لحضور اجتماع القيادة والسيطرة. لم يخطّط له، لم يقل فيه كلاما كثيراً. لكنّه يظلُّ “خطاباً” وفقاً لنظريّة ميشيل فوكو فى “نظام الخطاب”. ذلك أنَّ الذى صوّر الفيديو – وفقاً لخبرات فى الإنتاج التلفزيونىّ – أعدَّ كلَّ شيئ، وفقاً لسيناريو محبوك، أُرِيدَ له أنْ يبدو “عفويّاً”، وهنا تكمنُ الخديعة. فالخطاب بحسب المتعارف عليه هو كل منطوق، مرئىّ، محسوس بغرض الحجب والسيطرة. والمقطع القصير أبرز البرهان داخلاً إلى القاعة، يصافح مجموعة الضبّاط ويجلس ليديرَ اجتماعه. لكنّه يقول – ردّاً على شائعة أنَّ الدّعم السّريع قد قبض عليه – “ديل ما يقبضوا غنماية”. ومتهكّماً – أيضاً – “يقبضونى بالموتر وللاّ العربية السارقنّها من جياد؟”.فى وقتٍ ليس بعيداً عن “معركة بحرى”، يواجه القائد العام الموقف بالسّخريّة والتهكّم. وهو موقفٌ يليق به، باعتبارأنَّ “الإنحباس القسرىّ” الذى يرزحُ تحته، والتقارير الواردة إليه – هذا إنْ كانت ترده تقارير – تجعله مطمئناً إلى كونه – فعلاً – يديرُ (اجتماع القيادة والسيطرة). ذلك أنَّ القاصى والدانى يعرف أنَّ الجيش تكبّد خسائر باهظة فى “معركة بحرى” التى يعجز العدُّ عن ترقيمها (لكثرة انهزام الجيش فى بحرى وهو يحاول إسناد سلاح الإشارة لإخراج البرهان وبقيّة القيادات عن الحبس القسرىّ). إذْ للمرّة السادسة يقعُ الجيش فى كمين محكم فى بحرى، يقدّم فيه، هذه المرّة، اللواء قائد المتحرّك، “شهيداً”، ويتمُّ فيه أسر العميد، الذى جرى استجوابه على صفحات وسائل التواصل الاجتماعىّ التابعة للدّعم السّريع. فهل كان سيادة العميد “غنماية”؟ وفقاً لتهكُّم البرهان؟ والمعروف إنَّ أسرى ضبّاط الجيش لدى الدّعم السّريع يفوقون الثلاثمائة، فيما فاق عدد الجنود الخمسة آلاف جندىّ، ولنْ يجرؤ السيّد القائد العام على اعتبارهم “أغناماً”.ثمّة صورة نمطيّة للدّعم السّريع فى (الذّهن المدينىّ): أميّون، رجرجة، غير مدرّبين، لا يفهمون فى العسكريّة، يقاتلون بلا خطط، لا يجيدون استخدام التقنيات، لا معرفة لهم من قريب أو بعيد بعمل الاستخبارات. وأكثر من ذلك (ما شافوا الكهربا والعربات والشاشات وغيرها من وسائل الحداثة إلّا بعد أنْ جاء بهم القدر المشؤوم إلى الخرطوم). الصّورة النّمطيّة هذه هى التى صوّرتْ لمخطّطى الحرب بأنّ ثلاثة أيّام كافية لسحق الدّعم السريع. ذات الصّورة النّمطيّة التى كانت تسخر من قائد الدّعم السّريع أنّه نطق كلمة (تكنوقراط) نطقاً صحيحاً.
خلال الثلاثة أشهر المنصرمة من عمر الحرب، ذهب الجيش إلى مفاوضات جدّة، مباشرة وغير مباشرة. ووقّع على عدد من الهدنات. حاول مع الإيقاد إيجاد مخرج، على الرّغم من اتهامه لكينيا بأنّها “غير محايدة”. وطال الاتّهام أخريات منها اثيوبيا، على استحياء. علّق مشاركته فى مفاوضات جدّة. استنصر – كعادته، منذ أحداث الجزيرة أبا وود نوباوى – بمصر، والتى يعتبرها “محايدة”. رجع مرّةً أخرى إلى مفاوضات جدّة. تمَّ نقل العاصمة – إداريّاً – إلى بورتسودان. وذلك لأنَّ الخرطوم لم تعُدْ صالحةً بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى لعجزه عن بسط سيطرته على ربع مساحتها. تقطّعتْ السُّبل به، فيها تماماً. لا ارتباط – جغرافيّاً – بين أىٍّ من مواقعه إلّا بين السّلاح الطّبىّ وسلاح المهندسين، بحكم الجوار. صارت (مناطق سيطرته) أيدى سبأ. تتراجع مرتبته فى تصنيف الجيوش العالمىّ من رقم 76 عالميّاً فى يناير الماضى، إلى 143 فى يونيو(تصنيف غير موثوق). تتعطّل الحياة الاقتصاديّة بالكامل فى السُّودان. تخرجُ ولايات كاملة فى دارفور عن أىّ “سيطرة” للجيش. ينحصر وجوده فى قيادات الفرق فى كلّ من نيالا، الفاشر والأبيّض. ثمَّ يتهكّمُ قائده العام بأنّهم لن “يمسكوا غنماية”. لكنَّ الجميع يعلمُ أنَّ الدّعم السّريع “قلع” : قيادة الدّفاع الجوىّ، اليرموك، الاستراتيجيّة، الاحتياطىّ المركزىّ “حمرة عين”، فيما يتراجعُ الجيش، مدحوراً.
هل تهكّم القائد العام كفايةً، وفى الوقت المناسب، تماماً؟
تتلّقفُ صفحاتٌ كثيرةٌ الفرحة بمقطع الفيديو القصير بأنَّ السيّد القائد العام، رئيس مجلس السيادة الانتقالىّ، لم يتمَّ القبضُ عليه من المتمرّدين. لم تشِرْ أىٌّ من صفحات ومواقع الدّعم السّريع إلى أنَّه ألقى القبض على القائد العام. هل نبحثُ عن انتصار ههنا؟ وهل سيكون مبلغ حلمنا بالانتصار والنّشوة أنَّ القائد العام لم يُقبضْ عليه، وإنّما هو حبيس تحت الأرض؟ هل عدنا نشخصن المؤسّسات ونصنع ديكتاتوراً جديداً؟ بطلاً ونمراً من ورق؟ تتداعى أعرق المؤسّسات الوطنية ويمسح بسمعتها وتأريخها الأرض، يقعُ فى الأسر ضباطها العظام، تتهاوى مواقعها الاستراتيجيّة واحداً تلو الآخر، تشغر نقاطها الحدوديّة، مع ليبيا، تشاد، إفريقيا الوسطى، جنوب السُّودان، فيما نفرح لأنَّ سيادته “حُرٌّ”، تماماً، تحت الأرض؟
يا للهول!!!
بالمقابل يخاطب التسجيل الصّوتىّ لقائد قوات الدّعم السّريع، الفريق أوّل محمد حمدان دقلو، وهو “الأمّىّ”، حسب التصنيف، الذى لم يدخل الكليّة الحربيّة (مصنع الرّجال وعرين الأبطال) مجموعة شواغل وطنيّة بالغة الدّقة والتعقيد. يخاطب مسارات الإنتقال، إصلاح المؤسسات العسكريّة، ضرورة العمل على المحور السياسىّ وصولاً إلى المدنيّة، نبذ الاستقطابات وسياسة المحاور التى كانت ديدن النّظام السّابق، إعادة الإعمار والنّظر فى بناء دولة المواطنة وسيادة القانون. وأهمّ من ذلك أنَّ الانتصارات العسكريّة (لن تثنينا عن أنْ نمدَّ ايدينا للحوار والسلام).
حسناً…
ربّما يكون ذلك بعض “تكتيكات” الحرب، بعض حيل المرحلة. لكنْ جوهريّاً : ما الذى خسره الدّعم السّريع فى هذه الحرب؟ السّمعة؟ وهو الذى ظلَّ متّهماً بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدَّ الإنسانيّة، متّهماً بفضّ اعتصام القيادة، متّهماً بالاتجار بالذهب، اليورانيوم، بالعمالة لروسيا والإمارات، متّهماً بارتكاب إبادة جماعيّة فى غرب دارفور، الجنينة، متّهماً بالتمرّد على الدّولة. ما الذى سيخسرُه الدّعم السّريع، إذن؟ وما الذى سيكسبه فى حال انصاع ل (عفو القائد العام)، وسلّم نفسه وسلاحه للجيش؟
النّظر الفاحص يقول إنَّ الدّعم السّريع “غريقٌ” – أصلاً – فما خوفه من البَللِ، كما يقول المتنبى؟ هل ممالأته للنّظام المعطوب لما يمكن تسميّته بالدّولة السّودانية الرّاهنة، سيسقط عنه بعض “التّهم” التى تمّت محاكمته عليها وإدانته بها، سلفاً؟ وماذا سيستفيد؟ أنْ تعود ذات الأدوات والوجوه لمواصلة امتطاء جواد الدّولة، مراكمةً الامتيازات، فيما تزداد الفوارق والامتهان؟
الواضحُ أنَّ ما حمله خطاب دقلو ليس تكتيكاً. لن يوفّر له “مهرب آمن”، كما يتصوّر البعض. بل الرّاجح أنّه سيوفّر فرصةً – غير مسبوقة – لإعادة بناء السّودان. والفرصة غير مسبوقة لأنّها تأتى من خارج المؤسّسات التى ظلّتْ تنظّر، تخطّط، تقود السّودان منذ استقلاله، بما فى ذلك مؤسسة الجيش، التى أثبتتْ هذه الحرب ضرورة إصلاحها، هيكليّاً، أكثر من أى وقتٍ مضى. وهى الفرصة غير المسبوقة للنّظر فى مسألة المواطنة، حقوق الإنسان، قضايا التنميّة، إعادة بناء الخطابات والبرامج السياسيّة للأحزاب السّودانيّة، قاطبة.
أعتقد أنَّ القراءة، عاليه، لخطابىْ الرّجلين تضعنا أمام تحدّيات القيادة السّودانيّة. هل انتهى عهدُ القائد الفذ، الذى ينظر بعينين ويسمعُ بأذنين، هما عينا وأذنا مواطنيه؟
المؤكّد أنَّ الحرب الجارية هذه لن تنتهىَ قريباً، للأسف. والمؤكّد أيضاً – بالنّظر إلى القائد العام ولبس ديجانقو الذى يظهر به تحت الأرض وطريقته ومنطوقه – أنَّ الجيش سيمضى نحو هاوية التفكّك أو الانهيار والتلاشى. إلّا أنْ تتداركه رحمةٌ من الله.