عثمان ميرغني وأماني الطويل والفلسفة المصروكيزانية للانقلاب القادم
كتبت: رشا عوض
.
في مقالتي السابقة تحدثت عن الهدف من ترويج الاستاذ عثمان ميرغني لسردية زائفة عن سبب اندلاع حرب 15 أبريل وربطها بانقلاب مزعوم دبرته قوى الحرية والتغيير، وهو “تعويم الحرب” بمعنى التستر على مشعليها الحقيقيين وتوزيع مسؤوليتها على اطراف اخرى، ولكن المصيبة ان الفهلوة الكيزانية لم ولن تكتفِ بهذا القدر من الاحتيال!
يخطط الكيزان وعلى رأسهم الفصيل المرتبط بمصر لهندسة الواقع السياسي السوداني بعد الحرب بذات الملامح والمواصفات التي كان مخططا لها لو نجح أحد المشروعين الانقلابيين في السودان (مشروع انقلاب البرهان ، او مشروع انقلاب رئيس “الحركة الاسلامية” السودانية ومؤسس مليشياتها علي كرتي، الذي كان يخطط للقضاء على الدعم السريع بضربة عسكرية خاطفة فتطور الامر الى حرب طويلة)، وأهم هذه الملامح ان يكون السودان منزوع الديمقراطية تماما ، وان تشطب من ذاكرته وبعناية فائقة ثورة ديسمبر واهدافها كأنها لم تكن، او على الأقل إعادة صياغة الذاكرة الجمعية بحيث تكون هذه الثورة مسجلة في دفتر الخطايا الوطنية التي ارتكبت في لحظات طيش وسفه جماعي يستوجب التوبة النصوح على يد دكتاتور جديد من داخل الجيش!! أسوة بما فعل نظام السيسي بثورة 25 يناير في مصر حيث افترس النظام الجديد الاخوان المسلمين(جنجويد مصر) ولكنه افترس (فوق البيعة) كل القوى الديمقراطية والأصوات الحرة في مصر من يساريين ولبراليين و قوى شبابية صاعدة وكل من له هرطقات ديمقراطية (كلهم الان حالتهم تصعب على الكافر)!
وطبعا نموذج مصر المطلوب في السودان هو دكتاتورية عسكرية تقليدية موالية وتابعة، في البداية راهنت القاهرة على البرهان ولكنه خذلها او هي خذلته لا ندري، المهم وحسب الخطاب الرسمي المصري بعد الحرب يسهل استنتاج ان البرهان لم يعد رهانا مصريا، وكذلك لم يعد رهانا كيزانيا حيث تواترت دعوات الإسلامويين لتجاوزه لأن قيادته الضعيفة هي سبب عدم انتصار الجيش حسب زعمهم.
القاسم المشترك بين مصر والكيزان هو الرغبة في نظام سياسي يسيطر عليه الجيش بغطاء مدني أليف ومدجن للعسكر، مصر تفضل دكتاتور عسكري غير مؤدلج، بينما يخطط الإسلامويون لأن يتولى السلطة ضابط كوز ملتزم، وهذه النقطة ربما تكون خميرة عكننة راهنة او مستقبلية بين الطرفين ولكن المصلحة المشتركة بينهما رغم ذلك تظل راجحة، لأن مصر تفضل الدكتاتورية وان كانت إسلاموية على بعبع الديمقراطية الذي ترغب في طرده نهائيا من كل محيطها الإقليمي.
مكافأة من أشعلوا الحرب!
بعد زلزال هذه الحرب القاسية، والأثمان الباهظة التي دفعها الشعب السوداني، فإن أبسط قواعد المنطق الأخلاقي تقتضي محاسبة الجهة السياسية التي أشعلت الحرب، وان تعذرت المحاكمة الجنائية، فإن أقصى درجة من درجات التسامح والتسامي يمكن مطالبة الشعب السوداني بها هي ان يلعق جراحاته الغائرة ويبتلع دموعه الحارة من أجل إيقاف الحرب وإسكات الرصاص ولجم النيران، من أجل شراء السلام ، ولكن لا يستقيم منطقا او خلقا مطالبة الشعب السوداني بمكافأة من أشعلوا الحرب بقبول تنفيذ برنامجهم السياسي الأرعن الذي فشلوا في فرضه حربا!! هل يعقل ان يفلت الكيزان حتى من المساءلة السياسية ودفع فاتورة جريمتهم النكراء ممثلة في الحرب؟ هل يعقل ان يتشكل الواقع السياسي بعد الحرب على هوى المهزوم في الميدان لمجرد شطارته في الابتزاز والصفاقة وفجوره في الكذب والتضليل؟
هل يعقل بعد ان أشعل الكيزان الحرب وفشلوا في الانتصار فيها، ان يتم وضع الشعب السوداني بين خيارين: إما القبول بعملية سياسية تافهة يهيمن عليها الكيزان وعملاء مصر وإما استمرار صب البنزين على نار الحرب لاحراق المزيد من السودانيين! ويتم تسويق هذا الهراء تحت عناوين الوفاق والتوافق والوطنية!
بكل أسف هذا ما يطالبنا به كل من الأستاذ عثمان ميرغني والدكتورة أماني الطويل عبر تسويق برنامج “تعويم الحرب” وهو انتاج عملية سياسية قوامها الفلول وشفرة تشغيلها العداء للديمقراطية وتصفية أهداف الثورة وتكريس فكرة مسؤولية القوى المدنية الديمقراطية عن جحيم الحرب ، كنسخة معدلة لبرنامج “تعويم انقلاب البرهان” الذي اجتهد فيه الكيزان والمصريون قبل الحرب!
فالأستاذ عثمان ميرغني ظل يكرر في الفضائيات ان فشل المدنيين في التوافق سيقود الى استبداد عسكري يحظى بتأييد شعبي، وفي روايته العجيبة عن انقلاب الحرية والتغيير المزعوم قال ان تلك المحاولة لو نجحت كان الناس سيتوجهون الى القيادة العامة ويرقصون فرحا وسبب الفرح هو ان الجيش هو الذي كان سيظهر للرأي العام كمنفذ للانقلاب! هذه الفكرة، بحذافيرها كررتها الدكتورة أماني الطويل خبيرة الشؤون الأفريقية بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية في بوست على صفحتها بموقع فيسبوك وفي مقابلات تلفزيونية، فكتبت بالحرف الواحد مخاطبة المدنيين السودانيين:” إن لم تحققوا توافقا مع كل من كان ومهما كان فإن ما ينتظركم دكتاتورية عسكرية بحاضنة شعبية كاسحة وتفوتوا فرصة تحول سياسي على الشعب السوداني. ولن يستطيع احد تغيير هذا المصير، الوقت غير مناسب لابراء ذمة الاطراف ازاء بعضهم البعض، الوقت ان يعفو الكل عن الكل زمان قلتم الحصة وطن”!!
اكذوبة مكشوفة!
الأسطوانة المصروكيزانية التي تناوب على تشغيلها عثمان ميرغني وأماني الطويل تريد إقناعنا بأن عصب المشكلة هو القوى المدنية وسبب شقاء السودانيين هو عدم توافق هذه القوى مع ترويج أكذوبة فطيرة جدا وهي ان الشعب السوداني ما زال ينظر الى العسكر كملاذ آمن ومخلص من عبث المدنيين!! ولا أدري الى أي منطق استندت فرضية “الحاضنة الشعبية الكاسحة” و”الفرح والترحيب الشعبي” بالانقلاب العسكري؟
إن وعي الشعوب يولد من بطن تجاربها، والشعب السوداني بعد اربعة وخمسين عاما من حكم العسكر، ثلاثون عاما منها تحت وطأة نظام ناتج عن تزاوج الفاشية الدينية بالفاشية العسكرية كفر بالانقلابات التي أورثته الحروب الأهلية والفقر والقهر وتقسيم الوطن، والدليل على ذلك الرفض الشعبي الكاسح لانقلاب البرهان حتى قبل وقوعه، وقد كنت ضمن الحشود التي خرجت في 21 اكتوبر 2021 وسبحت في موجة المقاومة لهذه الجريمة قبل وقوعها وكم كانت موجة مجيدة وصادقة !كان ذلك اليوم من أجمل أيام حياتي على الإطلاق!! واستمر خروج مئات الآلاف رفضا للانقلاب منذ ايامه الاولى وفي 19 ديسمبر وصلت الجماهير الى داخل القصر الجمهوري وقدم الشباب أرواحهم وفقدوا اطرافهم وابصارهم في مقاومة الانقلابيين ، وفي بدايات عهد الحكومة الانتقالية عندما كانت الأزمات الخانقة تحاصر السودانيين من انقطاع كهرباء وندرة في الخبز وغاز الطهي وأزمة مواصلات وحاول الكيزان التحريض على إسقاط الحكومة واستدعاء العسكر للحكم جاء الرد التلقائي داويا في هتاف “الجوع ولا الكيزان” وهذا لا يعني ان الشعب زاهد في الخبز ويهوى الجوع وإنما يعني ان وعيا جديدا انبعث في عقول السودانيين، هذا الوعي طوى صفحة الانقلابات العسكرية وسحب الشرعية منها مرة واحدة وللأبد، انقلاب عبود وانقلاب نميري وجد ترحيبا شعبيا في البداية وانقلاب عمر البشير كذلك ، ولكن جديد ثورة ديسمبر هو اسقاطها للرهان على العسكر وهذه إشارة تاريخية لانبعاث روح جديدة في الشعب السوداني، فإن كانت الدكتورة اماني الطويل لم تلمس هذه الروح بحكم انها اجنبية، فماذا دهى عثمان ميرغني؟ هل تحول هو الآخر الى أجنبي ومغترب عن شعبه بحكم كوزنته؟!
الأساس الفلسفي للانقلاب القادم
كتبت الدكتورة أماني الطويل في صفحتها على موقع فيسبوك “الطلب على الامن أعلي من الطلب على الديمقراطية في منطقتنا للاسف، واللي مش عارف الحكاية دي يبقي عنده مشكلة في ثقافته السياسية ويمارس مزايدة لا أكثر ولا أقل بس عشان يبقي زعيم او مشهور ويحافظ عس مستوى جماهيرته ويخدع من لاخبرة له”! هذا بمثابة تمهيد لانقلاب قادم على مسار الانتقال المدني الديمقراطي المقبل تحت دعاوى ان الأمن مقدم على الديمقراطية! يعني باختصار بعد ان فشل الكيزان في إزاحة الدعم السريع بالحرب، سوف يستديرون للوراء ويخوضوا حربا في الميدان الذي هم فيه بارعون، أي ميدان قهر المدنيين العزل والتنمر عليهم، ولا استبعد على الإطلاق ان يسعى الكيزان الى عقد صفقة مع الدعم السريع نفسه بشرط كنس المدنيين من الساحة وتدشين نظام كلبتوقراطي كامل الدسم.
وقد رصدت اشارتين في هذا الاتجاه، الأولى من عثمان ميرغني الذي برأ حميدتي من الانتهاكات التي ترتكب في الخرطوم وقال في قناة الحدث انه رجل صاحب كاريزما، والثانية من عمسيب(صاحب منبر دولة النهر والبحر وهو صنيعة أمنية كيزانية) الذي قال في احد منشوراته يجب التفاوض مع المليشيا مباشرة، طبعا يعني بالتفاوض صفقة تقاسم سلطة!
ومن هنا تبرز أهمية تقوية الاصطفاف المدني الديمقراطي لتكون القوى الديمقراطية رقما عصيا على التجاوز في معادلة السياسة.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا كيف فقد السودانيون الأمن؟
ألم يكن العسكر بحربهم التي أشعلوها على خلفية أطماعهم السلطوية أكبر مهدد للأمن في السودان؟ وطبعا الحركة الاسلامية التي يقودها علي كرتي جزء من المكون العسكري وليس المدني لأنها تمتلك مليشيات مسلحة مثل كتيبة البراء بن مالك وكتيبة البنيان المرصوص وغيرها، فكيف يستقيم عقلا ومنطقا الرهان على العسكر بكل تشكيلاتهم في تحقيق الأمن بينما يحصد رصاصهم ارواح الابرياء في شوارع الخرطوم وتخترق داناتهم سقوف منازل المواطنين وتحولهم الى أشلاء وينام الناس ويستيقظون على رعب الانفجارات والقذائف الطائشة وتحول الملايين الى نازحين ولاجئين بسبب الصراع العسكري العسكري على السلطة!! ما الذي فعله المدنيون بالضبط ضد الأمن؟
ولو تركنا الحرب جانبا وجردنا حساب الفترة الانتقالية سنجد ان عسكر البرهان ومن ورائهم عسكر الكيزان أغلقوا ميناء البلاد الرئيسي في تهديد فاضح للامن القومي لتحقيق هدف سياسي دنيء وهو إفشال الحكومة الانتقالية، وسنجد مطابخ تقسيم الوطن بانتاج الخطابات العنصرية المتطرفة في قلب الاجهزة الامنية والعسكرية التي يسيطر عليها الكيزان، وسنجد المجازر البشعة في الاقاليم وسنجد مجزرة فض الاعتصام وقتل المتظاهرين طيلة فترة الانقلاب فأي أمن هذا الذي يمكن ان يبحث عنه الشعب السوداني تحت البوت العسكري؟!
نظرية تسويق الاستبداد العسكري على اساس توفير الامن او الخبز او الحفاظ على الوحدة الوطنية لا تصلح على الإطلاق في السودان، ببساطة لأن معطيات الواقع المحسوس الملموس تدحضها تماما حتى قبل اندلاع الحرب، أما بعد اندلاع الحرب فإن تسويق مثل هذه النظرية مسخرة واستخفاف بالعقول واحتقار لدمائنا المسفوكة وأشلائنا المبعثرة التي لن نقبل بعدها بأقل من دولة مدنية ديمقراطية، كتتويج لمشروع وطني قوامه عمليات جذرية للاصلاح السياسي و الأمني والعسكري والقضائي. مثل هذه الدولة لن تستأصل الكيزان او تطردهم من الوطن ولكنها لن تسمح لهم بالوصاية على الحياة السياسية ولن تسمح لهم باستئناف مشروعهم الاستبدادي الفاسد عبر الجيش ووصفات الفهلوة المحلية والمستوردة.