كتب: فتحي الفضل
.
مع استمرار الحرب وتعنت طرفيها في الاتفاق على الهدن وفتح المسارات الآمنة وفشل المجتمعين الدولي والإقليمي ممثلا في العديد من المبادرات في جدة ونيروبي وجيبوتي وغيرها تظهر وتتأكد أهمية ترتيب البيت الداخلي للقوى المدنية وبروزها كجبهة ممثلة للشعب السوداني السعي لإنهاء الحرب وعودة السلام وانتزاع سلطة الشعب في حكم مدني ديمقراطي كامل.
في هذا الإطار من المهم الاتفاق على المبادئ الأساسية التي تحكم بناء جبهة الجماهير في الداخل كبديل لما يجري خارج الوطن حيث يتلاعب العديد من القادة السياسيين بمستقبل البلاد ويتناوبون في تمثيل الشعب دون أي تفويض في الموائد والمؤتمرات والغرف المغلقة، بينما شعبنا في العاصمة ودارفور وكردفان والنيل الأزرق يعيش يومياً ويلات الحرب ويتعب ويدفع ثمن تقاعس المجتمع الدولي وفشل القيادة الحالية التي تتصدى لتمثيله بدون أي تفويض واضح وجامع من أبناء وبنات السودان.
وفي هذا الصدد، علينا وضع النقاط على الحروف والعودة والاستفادة من تجاربنا الماضية حيث دفع شعبنا وقواه الحية الثمن الباهظ عندما خرجت القيادات السياسية إلى خارج البلاد بعد انقلاب الجبهة القومية الإسلامية في يونيو ١٩٨٩م واستقرت في القاهرة وراحت تعقد المؤتمرات في لندن وواشنطن واسمرا. والنتيجة كانت 30 عام من حكم جماعة الإخوان المسلمين.
وعند الخوض في تجربة التجمع الوطني الديمقراطي نجد دروس وعبر تؤكد، بما لا يدع مجالا للشك، أن قيادة الخارج تنصاع للضغوط والإغراءات الخارجية بحكم وجودها في هذا البلد أو ذاك. وأنها قد عانت عدم التكافؤ في التمثيل والسلطة والسطوة، إذ كان لبعض المجموعات القدرة على الحد من حركة التجمع لتحكمها في المساعدات المالية من المانحين مثلاً الإدارة الأمريكية التي غطت جزءا من تكاليف وجود القيادة بالخارج. القيادات العسكرية مثلاً، القيادة الشرعية وغيرها كانت لها سطوة ومكانة مقدرة وأصوات أعلى من أصوات من إدعوا تمثيل الأحزاب السياسية، وان انضمام الحركة الشعبية بقيادة الراحل جون قرنق أدى إلى فرض أسلوب الكفاح المسلح دون الاستعداد الكامل لذلك والتجربة بشكل عام لم تأت أكلها بل أخرّت وأضرّت بالنضال في داخل السودان.
إلى ذلك، فإن تجربة قيادة العمل والنشاط السياسي من الخارج، مهما خلصت النوايا، أثبتت فشلها حيث أنه في غياب الشارع والرقابة الجماهيرية كانت القيادات السياسية تنصاع، بهذا القدر أو ذاك، لأسلوب العصا والجزرة الخارجية ما أدى لعدم تقدم وتعمق وبروز النضال الجماهيري الحقيقي لشعبنا ضد حكم الإخوان المسلمين إلا بعد عودة القيادات السياسية إلى داخل البلاد في عام 2005، حيث بدأ التأسيس الحقيقي والفعلي لحركة جماهيرية معتمدة على قواعد شعبية واضحة في المدن والأرياف. وأدى تمكنها من انتزاع حق النضال السلمي، رغم كل العوائق والقوانين المقيدة للحريات، إلى تحسين الصلة بين الشارع الجماهيري وقيادات الأحزاب وكان لذلك الفضل الأكبر في عمليات التعبئة والتنظيم أولاً للأحزاب نفسها ومن ثم للجماهير الشعبية.
وعلينا الإقرار بأن هزيمة النظام للمواجهات التي قادتها الحركة النقابية والحزبية لاسقاطه في بداية عهده قد أدى إلى التراجع والضعف العام ومع هذا تواصلت الهبّات الجماهيرية المتفرقة في 1995 و 1996 على سبيل المثال لا الحصر؛ إلا أن الحديث عن حراك جماهيري سلمي ديمقراطي منظم لم يبدأ بشكل مستدام إلا بعد عودة القيادات السياسية وتواجدها في الداخل لذا يمكننا القول أن نقطة البداية لإسقاط نظام الإخوان المسلمين بشكل واضح وعميق بدأت بعد 2005.
الخلاصة، التناغم بين الداخل والخارج مهم لكن تبقى المسألة الاساسية هي قيادة الداخل وإدارة الصراع من السودان والتنسيق مع من يمثلها في الخارج، العلاقة والحوار مع المجتمع الدولي لابد أن تبدأ في الداخل وفي سبيل ذلك علينا الإجابة على هذا السؤال: هل تتنازل القيادات السياسية عن حقها القانوني في التواجد داخل السودان بعد انتزاعه بنضال جماهيرها وهل تتنازل بسهولة ويسر عن هذا الحق بعد خروجها إلى الخارج أم تنطلق من حقها في نشاطها في الداخل وبالتالي الاعتراف داخليا بها كركن أساسي في أي حل تفاوضي يقود إلى بناء سلطة مدنية ديمقراطية كاملة.
ايضا، لماذا لا تتحول القيادات السياسية إلى الداخل؟ بدل السفر إلى العواصم المختلفة مثل بروكسل وجنيف وواشنطن والقاهرة وأديس أبابا ونيروبي، لماذا لا تستقر هذه القيادة في الداخل في أي مدينة تختارها مثل بورتسودان، حلفا، دنقلا، كسلا، عطبرة ويمكنها فرض موقفها وإقامة الاتصالات من الداخل مع القوى الخارجية وعبر هذا الطريق يمكن المساعدة في الضغط لإيقاف الحرب بتحويل اللقاءات مع القوى السياسية والمجتمعين الدولي والإقليمي إلى داخل البلاد وعبر ذلك الطريق هذا يؤكد ارتباط هذه القوى بجماهيرها وفي ذات الوقت يبعد شبح الضغوط الخارجية ويمارس الضغط على هذه القوى أي يعكس المسألة.