على تلال رماد الوطن: هل الحربُ هى الطّريق الوحيد للخروج الآمن؟

0 66

كتب: عبد الحفيظ مريود

.

الملاحظة التى أبداها بيانُ مركزىّ الحريّة والتغيير على خطاب الفريق ياسر العطا، والمتعلّقة بموقف الحركات الدأرفوريّة الموقّعة على سلام جوبا، قد لا تكونُ معبّأةً بالذى ذهب إليه البيان { يرجعوا بلدهم}، فى حال أصرّوا على موقف الحياد الميدانىّ، فى حرب الجيش ضدّ الدّعم السّريع. البيانُ أشار إلى أنَّ العبارة تقود إلى ما هو أكبر من ذلك. ولن تمرَّ مرور الكرام. لأنَّها تختزنُ ثقلاً وحمولةً “عنصريّة”. والوطنُ ليس فى حاجة إلى “مزيد من الجراح”. قد يكونُ مركزىُّ الحرّية والتغيير محقّاً، وموقفه صائباً. لكنَّ الإلماحة ليست بريئةً، كلّيةً. كيف ذلك؟ لأنَّ عبارة الفريق ياسر العطا قد تعنى أنَّ الموقف الوطنىّ يقتضى الوقوف مع الجيش فى “معركة الوطن”، وفى حال لم تروا ذلك، فإنَّ “وطنيّتكم” مشكوك فيها، فاذهبوا إلى “بلدكم الجيتوا منها”. يا سلام على محاولات “التخريج”. لا سيّما وأنّه بات واضحاً للجميع أنَّ الدّعم السّريع “قوّات أجنبية”، ولا علاقة لها ب “الوطن”.

تتأسّسُ الحرب الدائرة رحاها الآن على حزمة دعاوى سياسيّة، ثقافيّة، اقتصاديّة واجتماعيّة. تعمل متضافرة لتنتجَ الأساطير المبرّرة لها، من قبل الجيش ومن يساندونه. قد لا تظهرُ على السّطح العمليّات الفاعلة والكوابح، فبعضها عميقٌ فى اللاوعى الفردىّ والجمعىّ. والأكثر رواجاً ـ من بينها ـ دعاوى “اللاسودانيّة”، التى تدمغ بها الآلة الإعلاميّة للجيش والإسلاميين، قوات الدّعم السّريع. ومع أنّ تأثيرها بدأ فى الخفوت شيئاً فشيئاً، خاصّةً وسط أولئك الذين يتابعون صفحات الدّعم السّريع على الميديا، أو يحتكون بهم فى الخرطوم ـ تحديداً ـ وأطرافها، إلّا أنَّ منشأها بحاجة إلى تفكيك دقيق لمعرفة لماذا هى حاضرةٌ فى اللاوعى الجمعىّ لسكّان وسط وشمال السّودان، بحيث يمكنُ أنْ تكون “بعبعاً”، غولاً يستطيعُ أىّ واحد أنْ يخيف به “ناس الحلّة”. تعودُ فكرة المنشأ ـ بحسب الإمام الصّادق المهدّىّ ـ إلى فترة حكم الخليفة التعايشىّ. وهى فترةٌ ساهم الخيالُ الشّعبىّ فى تكثيف بشاعتها. ومردُّ الخيال نفسه إلى شعور دفين بالحنق على الأقدار التى {جعلتنا نرضخُ لحكم الغوغاء}. ليس هناك من هو محايدٌ أو علمىٌّ فيما يتعلّق بتحليل فترة التعايشىّ ممن ينتمون إلى وسط وشمال السّودان، إلّا قلّة. الصّادق المهدىّ يعرف ـ لأسباب دقيقة ـ المأزق النّفسىّ ذاك. ذلك أنَّ الفترة التّركيّة جعلتْ ـ بإشراكها لبعض النّخب فى الوظائف والعسكريّة ـ الكثيرين يظنّون أنَّ الوريث الشّرعىّ للحكم يجب أنْ يكون “هم”. ذلك فضلاً عن الأشراف الذين يظنّونه ميراثاً حقيقيّاً لا جدال حوله، مثل حالة الخليفة شريف.

ذلك لا يقدحُ ـ بالطّبع ـ فى وطنية أو “مهدوية” و”أنصارية” الكثيرين من الذين صمدوا على بيعتهم للخيلفة التعايشىّ، من سكّان وسط وشمال السّودان. لكنَّ “نكبة المتمّة” هى التى عقّدت الأوضاع وفاقمتْ من الحنق ذاك. مع أنّها كانت تعاملاً دقيقاً مع “حالة تمرّد” قاده عبد الله ود سعد، ضدَّ {الدّولة}، بعصيانه الواضح لأوامر الخليفة بإخلاء المنطقة، والبلاد فى “حالة حرب”. لقد جرى دلق الكثير من الخيال الأسود على حادثة المتمّة، وتعميمه على فترة حكم الخليفة التعايشىّ. فيما بعد، تعامل مستنيرون مع الواقعة دون فرز {الخيال الأسود}، ذاك.

مع توضيع الحكم الإنجليزىّ ل “لمؤسّسات الحداثة” ـ بحسب بروف عبد اللّطيف البونىّ ـ انخرط شمال السّودان ووسطه، لأسباب جغرافية وسياسيّة، فى توطيد الإنجليز والدّولة الحديثة. ولا يخفى أمر استرشاد الإدارة البريطانيّة بتوصيات ومذكّرات وملاحظات أساطين مثل مكمايكل، تشرتشل، آركل وغيرهم. بحيث سيكتشف المنقّب أنَّ سياسة التفريق والتمزيق وبناء “تمايزات” ليست محصورة فى قانون المناطق المقفولة، فقط. فى جنوب السّودان، النّيل الأزرق “الإنقسنا” وجبال النّوبة. فقد كانتْ هناك مناطق مقفولة غير معلنة، مثل {دار زغاوة}. وكانت هناك توصيات بإبعاد قبائل معيّنة عن دائرة “الفعل الحقيقىّ”. وبحسب بروف البونىّ، فإنَّ مؤسّسات الحداثة هى: كليّة غردون التى تغذّى الخدمة المدنيّة، الكلّية الحربية التى تغذّى الجيش بالضبّاط، والنّادى السياسىّ {الأحزاب}. من الطبيعىّ أنْ يشعرَ ورثة الإنجليز ـ بعد الدّولة الوطنيّة ـ بالتهديد من كلّ ما من شأنه تغيير مواقعهم. لقد جرت عمليّاتٌ طويلة ومعقّدة لتكريس الامتيازات، ولترسيخ الوجود “الطبقىّ”، بتجاوز فى استخدام مفهوم “الطّبقة”. لأنَّ الفحص الدّقيق لتواريخ الرأسماليّة الوطنيّة سيحيلك إلى علاقات غائرة جرى فيها ارتكاب تجاوزات وتسهيلات لخلق “رأسمالية وطنية”.

السّجالات والعراكات السياسيّة التى جرت، طوال التأريخ السياسىّ للشمال حول الدّيمقراطيّة والعسكريّة لم تقترب ـ أبداً ـ لتمسّ جوهر الأبنية التى تمّ التواضع عليها واعتمادها. ستظلُّ شكلانيّة، باستثناء التى جرت عقب ديسمبر 2018م. بمعنى أنَّ جوهر الأزمة ظلّ بعيداً عن أيدى التغيير عقب ثورة أكتوبر وانتفاضة أبريل. فالتواطؤ ثابتٌ عقب كلّ ثورة ونظام على إجراء تغييرات شكليّة، تحافظ على المكتسبات.

شذّتْ ديسمبر عن ذلك. جرى العمل بدأب على “تفكيك التمكين”. برزتْ وجوهٌ وقوى جديدة تخلّق أغلبها بعيداً عن هيمنة مؤسّسات الحداثة الاستعماريّة. ومن الواضح أنّ ثورة ديسمبر لا تشبه أكتوبر وأبريل من حيث القوى المفجّرة لها، والرؤية التى عملت على تطبيقها. ينظرُ الإسلاميون إليها كقوى عميلة، علمانيّة، مدمّرة. وذلك لأنَّ الحركة الاسلامية، المؤتمر الوطنىّ منذ مذكّرة العشرة ومفاصلة 1999م، أصبحا الوريث الشّرعىّ لما بعد دولة 56م. جرى اختزال الحركة الاسلاميّة والحزب فى وعاء مناطقىّ جهوىّ. كما جرى تقنين الهيمنة على ملفّات ومفاصل الاقتصاد والأمن والعلاقات الخارجية، توجّهاً. إذْ لم يعد كافياً إنتماؤك للحركة الاسلامية أو المؤتمر الوطنىّ لتحصل على الوظيفة الفلانية أو المقعد الفلانىّ أو رأس المال الفلانىّ. سيجرى وضع الإنتماء للحركة الاسلامية، الولاء لها، وللحزب، على محكّات الإنتماء الجهوىّ والقبلىّ. ذلك هو ما يوضّح التسلسل فى هيئة قيادة الجيش والشّرطة. ثمّة هيمنة وغلبة وانتصار لانتماءات أضيق. لذلك فإنَّ توجّهات ثورة ديسمبر الرّامية لانهاء “التمكين”، كثيراً ما ووجهتْ من قبل الإسلاميين ب {عايزين تسلّموا البلد للجماعة ديل؟}. وهى عبارة يتوجّبُ على “القحّاتة المنتمين عرقيّاً وجهويّاً ” أنْ يستوعبوها. كما كان يفعل ضبّاط جهاز الأمن مع المعتقلين {إنتَ وَدْ عَرَب…البطلّعك مظاهرات شنو؟}.

هل يمكنُ الزّعم بأنّه جرى الاصطفاف على أسس جهويّة وقبليّة فى حرب الجيش والدّعم السّريع؟

لا يخفى أنَّ القطع بحكم كهذا يبدو متعجّلاً. فما تزال المصالح المتداخلة، التغبيش، البنية التقليديّة تضع الكثيرين فى غير أماكنهم من حيث الميول الوطنيّة وأوهام المؤسّسات القوميّة. ثمّة الكثيرين فى الغرب الأوسع {كردفان ودارفور} تأخذهم ثارات وضغائن وفواجع تأريخيّة، تمنع اصطفافهم فى خندق الدعم السّريع. لكنْ من العسير وجود خروجات عن البنية التقليدية للوعى فى الشمال والوسط، تدير للجيش ظهرها فى معركته ضدّ الدّعم السّريع. توجد هنا وهناك ـ بالطّبع ـ تيّارات لم تتشكّل. لكن مع الوقت ستبدو ملامحمها تتضح.

لقد تمّ ويتمُّ فتحُ معسكرات التجنيد للشباب لمساندة الجيش، وتسليحهم فى نهر النّيل، الشّماليّة، الجزيرة، القضارف وكسلا. ربّما لأنّ ذلك غير ممكن ـ حاليّاً ـ فى كردفان ودارفور. وهو ما يشير إلى الانقسام الاجتماعىّ الحادّ، الذى يتذاكى الكثيرون فى التغافل عنه. تنخرطُ كتائب ومليشيات الإسلاميين فى الحرب إلى جانب الجيش. استرداداً للكرامة. والثابت أنَّ هذه الكتائب والمليشيات لم تعد تثق فى المنحدرين من كردفان ودارفور منذ وقت طويل. يمكنُ تصنيفها كتائب إسلاميّة “جهويّة”. وكما كتب د. عمّار السجّاد، فإنَّ معسكرات تجنيد المساليت فى الشمال وجدتْ “إقبالاً” كبيراً، وكان قد هدّد ـ فى بداية الحرب ـ فى حديث ليس للنّشر ـ ب “إنَّنا ممكن نسلّح قبائل الزُّرقة فى دارفور عشان تكاتل الدّعم السّريع”، وهو ما يشيرُ إلى أنَّ الانتخاب القبلىّ لقبائل دارفور وكردفان، لتقف إلى جانب الجيش تحدّده {الغبائن ضدّ الدّعم السّريع وعرب دارفور}، وليس “الميول الوطنيّة”. الحالةُ الرّاهنة لا تسمحُ للنّخب السياسيّة وقادة الرأى بالحياد. ليس لأنَّ الموقف وطنىٌّ بامتياز، بل لأنَّ الحياد خيانة للجهة، القبيلة، الوضع الاجتماعىّ. ذلك أنّ المعركة معركة دفاع عن مكتسبات تأريخيّة، أسّستْ لاحتكار السّلطة والثروة والوضع الاجتماعىّ، وليستْ معركة الهراء الذى ذكره د. أمين حسن عمر حول إرجاع الأمر للشّعب ليقرّر، ولا “الكرامة” المزعومة.

فى المقابل يقاتل الدّعم السّريع لأجل معركة وجوديّة. تستهدفُه ـ أوّلاً ـ وتستهدف إمكان قيام حياة خارج أُطُر مؤسّسات الحداثة الاستعماريّة. وهو فى ذلك ليس وحيداً. بمعنى أنَّ سيروة الحرب، وقائعها، خطاب الجيش ومن يقفون خلفه، ستصنع له حلفاء سياسيين وحواضن. فالاستقطاب الذى يصنعه مثل عبارة الفريق ياسر العطا، سيسرّعُ من تعرية أوراق التوت التى تتستّر وراءها دوافع وأساطير مروّجى الحرب وداعميها. الشيئ الذى يؤشّر إلى إمكانية اتّساع وتنوّع دوافع وموارد الحرب البشريّة وفضائها الاجتماعىّ. من الواضح أنّها ستكون حرب الموجودين “خارج مؤسسات الحداثة”، كما ألمح إلى ذلك محمد حسن التعايشىّ، بعبارات مختلفة. وهى فئات وقطاعات وأنظمة لم تخطر على بال الغارقين فى التصّورات التقليديّة لشكل الدولة وعلاقاتها وطرائق إدارتها. بل لم يتّسع الوقت لمعرفتهم. لذلك فإنّه يبدو واضحاً أنَّ الطريق الوحيد الآمن للخروج بالوطن إلى برّ الأمان هو هذه الحرب.

كان يمكنُ للمقولات الدّيسمبريّة أنْ تشكّل تغييراً كبيراً فى الإنقسام الاجتماعىّ، فى الخطوة الأولى باتّجاه تشكيل وعىّ مختلف حول الدولة والمواطنة وسيادة حكم القانون وهيمنة المدنيّة على وجه الحياة فى السّودان. فالشّباب الذى خرج لديمسبر، وصنعها غير متشرّب للحمولات الفاسدة التى يتعاهدها ورثة الاستعمار بالرّعاية. من المؤكّد أنّ الورثة الحقيقيين {تيار الاسلاميين الحالى} وجدوا ثقوباً كبرى فى جلباب “السّلميّة” التى أسقطتهم، فسارعوا إلى ملئها بالعنف المتشرّب، المجرَّب.

وفيما تنزوى تيارات الديسمبريين، الآن، فلا بديل للحرب الدائرة ـ فى حال انعدام نوايا حقيقيّة وجادّة للحوار البنّأء ـ فى تغيير الأبنية المتهالكة للوطنيّة المتحكَّم بها. للدّولة الجائرة المختطفة، التى تبدو مجرّد أداة لحراسة والدّفاع عن الهيمنة واحتكار الثروة والسّلطة والحفاظ على الامتيازات. فلرّبّما كانت الحرب هى الصّفعة التى تعيدنا إلى الوعىّ.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.