دولة 56 والسردية الوطنية السودانية
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
قال كاتب أميركي إن بلاده في استقطابها الحاد الذائع بين المحافظين والليبراليين قد فقدت سرديتها الوطنية التي لمت شملها طويلاً. وجسدت واقعتان هذا الفقد العظيم. فبينما كان الرئيس بايدن يدشن في الأسبوع قبل الماضي نصباً تذكارياً للصبي الأسود إيما تل ذي الـ14 ربيعاً الذي سحلته “الكو كلوكس كلان” في 1955 كان رون سانتوس حاكم فلوريدا الأمل في الترشح عن الحزب الجمهوري في الانتخابات المقبلة، يتبنى منهجاً لتدريس الرق في أميركا ينوه باكتساب الرقيق مهارات خلال عبوديتهم نفعتهم في معاشهم حين تحرروا.
قد تسمع من بعض فصحاء “الدعم السريع” أنهم خرجوا في هذه الحرب لوضع نهاية لـ”سودان 1956″. ويريدون بذلك الدولة الوارثة للحكم بعد استقلال السودان في ذلك العام. وهي الدولة المتهمة عند قوى الهامش بأنها ظلت حكراً للجماعة العربية المسلمة على النيل الأوسط منفردة بالسلطة والثروة.
وصح السؤال: هل من في الهامش براء من دولة 1956 بالمرة وخرجوا منها خروج الشعرة من العجين كما نقول في السودان؟ ألم يكن لهم ثمة أداور في حكوماتها وسياساتها؟ ألم يكن من دور لهم فيها سوى دور الضحية؟ وبعبارة أخرى: هل كانوا بلا وكالة (agency) في سنواتها التي تطاولت لثلثي قرن؟ وتعني “الوكالة” هذه في مصطلحها الإنجليزي أن يكون المظلوم شريكاً فيما وقع عليه من ظلم بصورة أو أخرى.
جلية الأمر أن الهامش لم يكن مغلول المساهمة في دولة 1956. فدخلت قوى منه في تعاقدات مع مركزها في الخرطوم وأحلاف راضية مرضية. فكان لهوامش السودان الثقل الاقتراعي دون منطقة النيل الأوسط في انتخابات الفترات الديمقراطية الثلاث التي دامت لـ10 سنوات متقطعة. وبذلت فيها أصواتها للأحزاب التقليدية الدينية التي انتموا لها. وهي الأحزاب نفسها التي انعقد لها لواء الحكم في دولة 56 كلما قامت على البرلمانية.
وكانت للهامش أدواره أيضاً في دولة 56 خلال فترات الحكم العسكري التي دامت لأكثر من نصف قرن فينا. فدخل في أحلاف معها وتولى قادة منهم الحكم في مناطقهم باختيارهم وباسم الحكومة المركزية. وكانت أول هذه الأدوار للهامش في سدة الحكم في دولة 56 هي فترة الحكم الذاتي لجنوب السودان (1972-1983) بعد اتفاقية أديس أبابا بين الرئيس النميري وحركة الأنيانيا للقوميين الجنوبيين بقيادة الجنرال جوزيف لاقو.
وكان للقوميين الجنوبيين سلطان أكبر، لا على إقليمهم فحسب، بل والحكومة المركزية أيضاً فيما بعد اتفاقية السلام الشامل في 2005 حتى 2011. ومن جهة أخرى كان لحركات دارفور المسلحة وسياسييها أدوارهم في المركز وإقليمهم في مثل رئاسة الدكتور التجاني السيسي للسلطة في إقليم دارفور في حلف مع حركات مسلحة تواثقت مع حكومة الإنقاذ بين 2012 و2016.
سنتوقف في هذه الكلمة عند فترة الحكم الذاتي في الجنوب (1972-1983) دون غيرها لما خالطها من ملابسات مكنت لعقيدة أن حكومة الخرطوم تحت النميري مما لا يؤتمن على قسمة السلطة والثروة ككل حكومات 56. فعلى جمال ذلك العقد في الجنوب لما تمتع فيه بسلام لم يره لا قبلها ولا بعدها حنث النميري بالعهد فألغى اتفاقية أديس أبابا من جانب واحد. فتداعى نظام الحكم الذاتي، وخرجت الحركة الشعبية لتحرير السودان (جون قرنق) غبينة من نقض النميري للعهد، وسقط نميري في 1985. وانعقدت دورة جديدة من الحرب الأهلية بين الحكومة والقوميين الجنوبيين لم تصمت بنادقها إلا باتفاق السلام الشامل في 2005.
قل أن تجد من صفوة السودان من لا يعتقد أن نميري وحده هو الذي خرب الحكم الذاتي في الجنوب واعتزل الطبقة الجنوبية التي أقبلت عليه بقوة. لكن ما مقدار الحقيقة في هذه العقيدة؟ وهل كان قرار نميري هو الذي قضى على الحكم الذاتي أم أنه وجد شقاً في السياسة المحلية الجنوبية اتفق له ووسعه؟
لن تجد بقدر ما تفتش عن دور للجنوبيين أنفسهم في اعتزال الحكم الذاتي والتربص به وإسقاطه. فمما يناسبهم للعب دور الضحية أن تجرى التغطية لدورهم هم أنفسهم في القضاء على الحكم الذاتي فيهم. وحقيقة الأمر أن طائفة من الجنوبيين كانت هي من حرضت النميري على تفكيك الحكم الذاتي. وتنتمي تلك الطائفة إلى شعوب ولاية الاستوائية، وكان منهم جوزيف لاقو ممن وقع الاتفاقية مع نميري. وتقع مدينة جوبا، عاصمة الإقليم الجنوبي، نفسها في دارهم. وكانت صفوة هذا الشعب الاستوائي، بل وعامته، شكت من تغول شعب “الدينكا” غزير العدد، الذي أصله إلى الشمال الغربي في ولاية بحر الغزال، لا على سدة الحكم فحسب، بل في احتلال مهاجرين منهم أيضاً لأجزاء من دارهم.
كان لاقو نفسه هو من عرض لظلامات الاستوائيين من هيمنة “الدينكا” على مقاليد الحكم في كتابه “اللامركزية: ضرورة للمديريات الجنوبية في السودان”. ودعا فيه إلى استفتاء لتعديل اتفاقية أديس أبابا، التي جعلت الجنوب إقليماً واحداً، لتفككه إلى ولايات بدلاً من إقليم واحد. ففحوى كتاب لاقو أن يعاد تقسيم الجنوب لأن شعب “الدينكا” سيطر عليه من طريق حكومة الإقليم الجنوبي الواحدة فظلم الآخرين. وبدأ الكتاب بالمثل “حين يأكل الرجل الأناني لحد التخمة يصف الرجل الجائع حقاً بأنه طماع”. فمن رأيه أن السلطة قد أتخمت “الدينكا” ومتى راجعها الآخرون عن غلوائها وصفتهم بـ”الجوع إلى الحكم”.
حمل لاقو في كتابه على استئثار “الدينكا” بالسلطان. وقال إن زعمهم الحق فيه بذريعة أنهم الغالبية في الجنوب باطل في ظل اللامركزية. وأضاف أن حكومة الجنوب قد وترت الناس ولن نلوم سوى “الدينكا” الذين اختاروا طريقاً مغروراً لفرض أنفسهم كمؤسسة حاكمة. وأخذ يحصي وجود “الدينكا” بالأسماء في مؤسسات الحكم الذاتي، فهم 10 من 20 في المجلس التنفيذي العالي، وهم ثلاثة من ستة بين المحافظين، وهم ستة من 12 في مجلس الشعب الإقليمي، وهم 2 من 3 في مجلس الاتحاد الاشتراكي الإقليمي، وهم واحد من ستة في سكرتاريته، وهم 18 من 34 من مديري الوزرات المختلفة.
وأضاف لاقو أنه، وفي غياب اللامركزية، لم يرع “الدينكا” حرمة الجماعات الصغرى، فقد زعزعت تحركاتهم وسكنهم العشوائي حياة أهل بلدات منقلاً والليري ولاقو وكولي حول الرجاف. وليس بوسع هذه المناطق اتخاذ قرار في شأن حياتها لأن الحكومة الإقليمية تنظر لتصرفات “الدينكا” بعين الرضا.
وأقام لاقو حجته لتفكيك الإقليم الجنوبي الواحد على تناقض رآه بين دستور السودان (1973) (المادة 182) وقانون الحكم الذاتي للإقليم الجنوبي (المادة 18). فمادة الحكم الذاتي مركزية، بينما قضت مادة الدستور تطبيق اللامركزية حتى يأمن الناس إلى خصائصهم الثقافية فيدوم التقدم. وكان مأمولاً أن تطبق حكومة الجنوب هذا المبدأ تنزيلاً للحكم إلى الناس، ولكنها تغاضت عنه. وقال إن “الدينكا” وظفت الخوف من استغلال الشماليين في الخرطوم للجنوب ذريعة لتعطيل اللامركزية الجنوبية على أنهم هم من استحق أن يخاف الجنوب منهم لعزتهم بقبيلتهم دون الجنوب.
وقال لاقو إن مشروعه لتقسيم الجنوب لينعم أهله باللامركزية مجرد خدوش قط بأظافره على وجه من وضعه في ركن ضيق. فقد اضطرهم “الدينكا” للوذ بذلك الركن لعزتهم بأغلبيتهم فصارت مبررهم للهيمنة على آلة الحكم في الجنوب. ويأسّوا الناس من أن تتنزل اللامركزية عليهم. فمنعت ملاعق الذهب التي ولد “الدينكا” بها من موالاة اللامركزية وجعلها خياراً جاذباً في اتفاقية أديس أبابا.
وأضاف قائلاً إنه واثق بأن إرادة ثورة مايو (1969 التي جاءت بنميري) واتحادها الاشتراكي، التي حملت حتى من عارضوا الحكم الذاتي للجنوب بين الشماليين لقبوله، ستعلو على إرادة من عطلوا اللامركزية في الجنوب. وزاد بأن مديريات الجنوب تستحق مثل غيرها أن تكون لها الولاية على شؤونها الخاصة عملاً بدستور السودان والنظم التي دعا لها الاتحاد الاشتراكي. ومن ارتاب في هذا فليطلب النصح من النميري أو أي عضو مؤسس لثورة مايو (أيار).
بدا أننا نضيع السردية التاريخية السودانية الوطنية المشتركة بمثل ما نراه من تربص الهامش بدولة 56 تربصاً سل به نفسه كالشعرة من عجينها. ونذكر مع ذلك للسيد بونا ملوال، الصحافي والقيادي الجنوبي في دولة نميري والحكم الذاتي، الذي قال ذات مرة إنهم لو حرسوا الحكم الذاتي من شطح النميري طوال ما كانوا معه لما جرؤ على تفكيكه.
فمتى غطى الهامش على دوره في سردية دولة 56 في مثل تحميل نميري وحده وزر قتل اتفاقية أديس أبابا صرنا إلى سرديتين وطنيتين عن جلاد وضحية. وهما سرديتان مؤسفتان لأنهما إلى الأضغاث أقرب من الحقيقة. ناهيك من أن إعفاء الجنوبيين من ذلك “الوزر”، الذي ارتكبوه من فوق حيثيات وحجة وحس بالظلم من أهلهم، هو نوع من الوصاية عليهم. كأنك تقول عنهم “ما مؤاخذين يعني”.