هل يكون انفصال دارفور حلاً؟

0 136

كتب: عثمان ميرغني

 

تداعيات الحرب في السودان كثيرة وخطيرة، ومنها خطاب الجهوية والكراهية والعنصرية الذي ارتفعت وتيرته، ومنها أيضاً الكلام المتداول في عدد من منتديات السودانيين ومجالسهم ودعوة بعض الشماليين في لحظات غضبهم وإحباطهم من الدمار الذي حل بالخرطوم، لفصل إقليم دارفور لأنه أصبح في نظرهم عبئاً ثقيلاً، وبؤرة للصراعات والمشاكل التي عانى السودان كلّه من تبعاتها وأنهك بسببها.

الدعوة لفصل الإقليم بدت في ظل ضغوط الحرب المتزايدة، هي المخرج و»الحل السهل». فما دام التعايش بات صعباً، وتكلفته باهظة، فلماذا الإصرار على الاستمرار فيه؟ وبدلاً من ذلك ربما التفكير في طلاق سلمي يوفر على الناس المعاناة والمزيد من الحروب التي قد تفضي في النهاية إلى انفصال دموي وفوضوي. هكذا يجادل البعض، بينما يذهب آخرون في اتجاه حلول تحافظ على وحدة البلد عبر نظام رئاسي أو برلماني فيدرالي، أو حتى بصيغة فضفاضة وصعبة مثل الكونفدرالية التي لا أحسب أن تكوين السودان الهش، يتحملها.

في مواجهة المغالين في طروحاتهم في الشمال هناك أيضاً أصوات متطرفة في دارفور تمعن في الهجوم على الشمال، مستخدمة خطاب التهميش، والحديث عن امتيازات تاريخية تمتع بها أهل المركز، وعن أربع قبائل تسيطر على البلد وتتداول الحكم فيه عسكرياً كان أو مدنياً.

الحقيقة أن قضايا الهامش كلمة حق أريد بها باطل، مثلما رأينا في التشويه الذي حدث لهذا المفهوم، وكيف بات يستغل في سباق الكراسي والمغانم لا في دارفور وحدها، وإنما في مناطق أخرى من السودان. دارفور وإن عانت من مشاكل الفقر والتنمية غير المتوازنة وشكت مما تراه تمثيلاً غير عادل في السلطة المركزية، فإنها ليست وحدها في هذا الحال، وهناك مناطق كثيرة في الشمال مهمشة أكثر منها، ويعيش سكانها ظروفاً أقسى، لكنهم لم يرفعوا السلاح وتمردوا ضد الدولة، أو هددوا بتدمير الخرطوم.

قضية التهميش عندما انطلقت كقضية سياسية مطلبية في دارفور، أثارها نواب الإقليم في البرلمان منذ الستينات، ثم تلقفها آخرون واشتطوا بها ليجعلوها راية لإنشاء حركات مسلحة تمردت وقاتلت ضد السلطة المركزية في الخرطوم، وضد السلطة الولائية في الإقليم. وبسبب مزيج من سياسات الحكومات المتعاقبة، وانحراف بعض قيادات الحركات الدارفورية عن مطالب الناس الحقيقية والسلمية، وتسخيرها في لعبة السلطة للحصول على المناصب والمكاسب، لم يعرف الإقليم طعم الاستقرار منذ فترة طويلة، بل غرق في دوامة العنف والصراعات، بعضها ناجم عن الصراعات الداخلية بين مكوناته وقبائله المتعددة، وبعضها ناجم عن سياسات حكومية خاطئة وقصيرة النظر.

بعض الذين يروجون لخطاب الانفصال سواء من الدارفوريين أو من الشماليين، يحاولون العودة بالتاريخ أكثر من ثلاثة قرون إلى الوراء عندما كانت دارفور سلطنة مستقلة، شأنها شأن ممالك أخرى في تلك الفترة، وذلك لتبرير دعوتهم لفصلها اليوم باعتبار ذلك هو الحل في نظرهم. لكن هذا المنطق المعوج لو أخذنا به وطبقناه فسوف يعني تقسيم السودان وطي تاريخه منذ توحده في حدوده المعروفة اليوم. بل إن هذا المنطق لو طبق في العالم لكانت النتيجة إعادة كتابة التاريخ ورسم كل الخرائط وتأجيج حروب لا تنتهي.

سمعت تسجيلات كثيرة، وقرأت موضوعات وآراء لعدد من أبناء دارفور وغرب السودان عموماً، يتصدون فيها للخطاب الجهوي الصادر من بعض الدارفوريين، ومن مجندين في الحركات المسلحة للهجوم على الشماليين. لكن مثل هذه الأصوات الواعية من دارفور لا تزال قليلة وخافتة، والتصدي لحملات التأجيج يتطلب جهداً أكبر لا من الشماليين وحدهم، بل من الدارفوريين أيضاً، ومن كل النخب في بقاع السودان إذا أردنا الحفاظ على وحدة البلد.

الذين يرفعون خطاب الجهوية لا يمثلون أغلبية أهل دارفور، بل أكاد أجزم بأنهم الأقلية. فدارفور لا تعيش كرقعة معزولة في السودان، وكثير من أهلها انتقلوا إلى مناطق أخرى في السودان، ومنها الخرطوم، انصهروا فيها وعاشوا في أمن وسلام بين الناس.

كذلك فإن حملة السلاح لا يعبرون عن كل دارفور، ويضرون قضيتها أكثر مما يخدمونها. لقد عبر عن الإقليم وقضاياه بشكل أقوى عدد مقدر من النخبة الواعية التي انخرطت في العمل السياسي السلمي مثل الراحل أحمد إبراهيم دريج مؤسس جبهة نهضة دارفور ورئيسها في ستينات القرن الماضي، والذي أصبح نائباً برلمانياً ثم وزيراً للعمل عن حزب الأمة، ثم زعيماً للمعارضة في الجمعية التأسيسية (البرلمان) في عام 1968. ولاحقاً عيّن حاكماً لإقليم دارفور في عهد الرئيس الراحل جعفر نميري. ومن هذه النخب نذكر أيضاً على سبيل المثال لا الحصر الراحل الدكتور علي حسن تاج الدين، عضو مجلس رأس الدولة الأسبق، والدكتور آدم موسى مادبو، والراحل أحمد عقيل من قيادات حزب الأمة، والدكتور علي الحاج محمد الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي، وآخرون لا يتسع المجال لحصرهم.

القيادي الراحل جون قرنق، زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، في واحد من خطاباته التي يتناقلها السودانيون في مناقشاتهم حول أزمة السودان صحح مفهوم الهامش وصولاً إلى جذور المشكلة، وهي أزمة النخب السودانية والحكم والهوية. قال وقتها إن المشكلة ليست مشكلة دافور، ولا مشكلة جبال النوبة، ولا مشكلة البجا في الشرق، ولا مشكلة الغلابة في أمدرمان، ولكنها مشكلة فشل الحكومات وطريقة الحكم في الخرطوم. في تقديري هذا هو التشخيص الصحيح للأزمة، والمعالجات المطلوبة لا تتم بتقطيع أوصال البلد وتقسيمه مجدداً، وإنما بحل إشكاليات الهوية والتنمية وكيف يُحكم السودان، والنموذج الذي يفضي به إلى الاستقرار المفقود والمنشود.

انفصال الجنوب لم يحل مشاكل السودان، وانفصال دارفور الذي يدعو له البعض، لن يحلها أيضاً، بل سيفاقمها لأنه سيفتح شهية مناطق أخرى، وطامحين آخرين، وطامعين ومتربصين، وهم كثر. فما الذي يمنع انتقال العدوى للشرق، أو لجنوب كردفان، أو النيل الأزرق وغيرها؟

فدارفور فيها تنوع قبلي كبير، ومشاحنات وصراعات طويلة، وتداخلات عبر الحدود، وحتى لو انفصلت فإن هذا لن يعني وقف حروبها، ولن يضمن بالضرورة الأمن والاستقرار لبقية أنحاء السودان.

بالنسبة للشماليين الذين وقعوا في لحظات إحباطهم من الحرب الراهنة في فخ خطاب التقسيم، فإنني لا أفهم كيف يمكن تحميل كل أهل دارفور مسؤولية ما يحدث في الحرب الحالية، وهم الذين عانوا لعقود من دوامة الحرب والعنف والحركات المسلحة؟

دارفور ضحية، والسودان كله ضحية لفشل النخب السياسية، وعمى سباق الكراسي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.