“لا تنسوا السودان”

0 99

كتب: د. عمرو حمزاوي

.

قبل أيام، طالب الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا العالم بعدم نسيان الصراعات المسلحة المشتعلة في مناطق كثيرة بعيدة عن القارة الأوروبية والمهددة لسلم وأمن البشرية شأنها شأن الحرب الروسية-الأوكرانية. جاء حديث دا سيلفا خلال أعمال قمة تجمع «البريكس» التي انعقدت في جمهورية جنوب إفريقيا، وأشار في سياقه إلى الصراع المستعر في السودان الذي اهتمت القوى الدولية والإقليمية به حين نشب في ربيع 2023 ثم تراجعت مبادراتها ومساعيها مع استمراره.

وفي التراجع هذا خطر بالغ على بلد عربي وإفريقي كبير لم تنقطع أزماته منذ عقود طويلة.

فالسودان لم يكن منذ استقلاله في خمسينيات القرن العشرين ببعيد عن الحروب الأهلية، والمواجهات المسلحة، وإخفاقات حكامه في تحقيق التنمية المستدامة وتحسين ظروف الناس المعيشية. واليوم، وبعد الفشل المتكرر لمساعي وقف إطلاق النار ومفاوضات التهدئة بين الجيش الوطني وبين ميليشيات الدعم السريع، يهدد الصراع المسلح بالقضاء على ما تبقى من أسس تماسك الدولة واستقرار المجتمع وبالزج بالبلاد إلى أتون أزمة طويلة المدى ذات تأثيرات خطيرة داخليا وإقليميا وعالميا. فوراء الصراع الذي تفجر الربيع الماضي في مركز السلطة بالعاصمة الخرطوم بين الفريق البرهان قائد الجيش والفريق حميدتي قائد الميليشيات، تكمن نواقص جوهرية أرهقت السودان بلدا وشعبا منذ استقلاله. ومن النواقص هذه اضطهاد المجموعات السكانية الإفريقية وغير المسلمة، وتهميش الأطراف الكثيرة التي فرض عليها الفقر ومحدودية الخدمات واقعا لا فكاك منه وعوقب سكانها بعنف حين طالبوا سلميا بحقوقهم، ونزوع مركز الخرطوم إلى رفع السلاح في مواجهة حركات تمرد في الجنوب ودارفور وكردفان والنيل الأزرق والنوبة ما كان لها أن تتشكل لو أن الحكومات المتعاقبة اعترفت بالتنوع العرقي والديني واللغوي وامتنعت عن تركيز الثروة في العاصمة وفي أيادي نخبها ووزعت بشيء من العدل عوائد الموارد الطبيعية الطائلة للبلد الغني. ومن وراء الصراع الراهن أيضا، تكمن كارثة الحضور المزدوج لكيان عسكري نظامي يمثله الجيش الوطني ولميليشيات غير نظامية يديرها أمراء حرب وتتكالب من جهة على السيطرة السياسية ومن جهة أخرى على الاستحواذ على الموارد الاقتصادية والمالية.

أغرق حكام المركز في الخرطوم الأطراف البعيدة في حروب أهلية، وفتتوا التماسك الإقليمي للسودان (استقلال جمهورية جنوب السودان) ووظفوا الميليشيات في حروبهم حتى توحشت (ميليشيات الجنجويد التي صارت قوات الدعم السريع نموذجا). وقد كانت عقود حكم الرئيس السابق عمر البشير وتحالفه غير المقدس مع حركات دينية راديكالية بين 1989-2019 هي الفترة الزمنية التي طغت بها كافة هذه الظواهر الكارثية على وجود السودان بلدا انفصل عنه جنوبه في 2011 وشعبا قتل من مواطناته ومواطنيه ما يتجاوز الربع مليون في مذابح دارفور.

وحين انتفض الناس في 2019 مطالبين بعزل الرئيس البشير وإبعاد نخبته بامتداداتها الراديكالية والفاسدة عن السلطة ومن ثم تحرير شؤون الحكم والاقتصاد والمال من قبضتها، كان على السودان بلدا وشعبا أن يواجه فوريا تحديات احتواء استخدام السلاح في الأطراف، واستعادة ثقة الناس في المواطنة الجامعة، والقضاء على ازدواجية الجيش والميليشيات، وإنجاز خطوات سريعة وفعالة لإنهاء اضطهاد المجموعات السكانية الإفريقية وغير المسلمة وتحقيق التوزيع العادل للثروة دون تهميش، والتوافق على اقتسام السلطة سلميا بين الجيش والقوى المدنية في مرحلة انتقالية تنتهي بالتأسيس لحكم ديمقراطي. ولم يكن ذلك بالمهمة السهلة.

توسطت الأمم المتحدة وتدخل الاتحاد الإفريقي وتكونت آلية ثلاثية من المنظمتين ومعهما الهيئة الدولية المعنية بالتنمية إيقاد، تشكلت لجنة رباعية من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والسعودية والإمارات، تواصلت مصر مع القوى العسكرية والمدنية الفاعلة في مركز الخرطوم وفي الأطراف، عقدت جلسات تفاوض طويلة بين الجيش والدعم السريع وتحالف المدنيين في قوى الحرية والتغيير والأحزاب والنقابات المؤثرة، وقعت اتفاقات إطارية متتالية حددت إجراءات وتوقيتات لإنهاء ازدواجية القوات النظامية وغير النظامية ولتطبيق ترتيبات الحكم الجديدة. غير أن التوترات بين المركز والأطراف لم تتراجع، ولا اختفت الخلافات السياسية، ولا تغير تركيز السلطة والثروة والفساد أو توارى خطر اشتعال الحروب الأهلية.

أما اليوم، وبسبب الصراع المسلح المستمر بين الجيش والدعم السريع، بات السودان بلدا وشعبا في معية أخطار بالغة لجهة تفكك الدولة الوطنية وانهيار العيش المشترك وتجدد الحروب الأهلية وعمليات نزوح واسعة من مواطنات ومواطنين يبحثون عن ملاذات آمنة بعيدا عن الدماء والدمار.
وتلك أخطار وأزمات ذات انعكاسات سلبية لا تقتصر على السودان، بل تمتد إلى جوار في الشمال حيث مصر وليبيا وفي الغرب حيث تشاد وإفريقيا الوسطى وفي الجنوب حيث إريتريا وإثيوبيا وكينيا وأوغندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية.

ولا سبيل للحد من انزلاق السودان إلى فقدان ما تبقى من وحدته وفقدان استقراره سوى بالضغط الفعال على طرفي الصراع، الجيش والدعم السريع، من أجل وقف حقيقي لإطلاق النار والعودة الفورية إلى مفاوضات تستهدف إحياء وتنفيذ اتفاقات دمج القوات غير النظامية في قوات الجيش الوطني النظامية وإنهاء ازدواجية حاملي السلاح. وتستطيع المنظمات المندرجة في الآلية الثلاثية، الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي وهيئة إيقاد، تسهيل وتحفيز وإدارة التفاوض بين ممثلي البرهان وحميدتي وترجمة ذلك إلى ضمانات ترفع من احتمالية الالتزام ببنود الاتفاقات.

ومن بين تلك الضمانات، يحتاج السودان إلى إقرار منع دستوري وتجريم قانوني لاستخدام السلاح لأغراض سياسية وفي الصراعات المجتمعية، وإلى اعتماد نصوص دستورية وقانونية صريحة تحمي الأطراف والمجموعات السكانية التي طال تهميشها من العنف والاضطهاد والظلم فيما خص توزيع السلطة والثروة. ففي الاقتراب من هذين الأمر، شأنهما شأن دمج القوات غير النظامية في الجيش، مرتكز جوهري للحفاظ على تماسك الدولة الوطنية واحتواء خطر تفككها. وفي الاقتراب منهما، أيضا، إنهاء للإفلات من العقاب على استخدام السلاح في تكالب السياسة وصراعات المجتمع.

وفي وجه ذلك، يقف تعنت أطراف الصراع المسلح في السودان التي لم تقتنع بعد بأولوية التفاوض على القتال. وفي وجه ذلك، تقف أيضا أطراف إقليمية تفتش عن سبل إطالة أمد العمليات العسكرية تحقيقا لما تراه مصالحها الاستراتيجية والأمنية.

غير أن الضغط الأممي والإفريقي والعربي بغية الذهاب إلى جلسات تفاوضية جادة وإقرار مسار توافقي قابل للتطبيق وفقا لجدول زمني واضح واعتماد ضمانات حقيقية ملزمة لدمج ميليشيات الدعم السريع في الجيش الوطني يظل الخطوة الجوهرية لإبعاد السودان عن الهاوية.

وحال النجاح في هذه المهمة، سيتعين العمل على إنجاز خطوات إضافية بتشجيع القوى العسكرية والمدنية على استئناف مفاوضات البناء الجديد للسلطات التشريعية والتنفيذية ومؤسسات إنفاذ القانون بعد عزل الرئيس السابق البشير وفي ظل مطالب بالإصلاح الدستوري والسياسي واقتسام السلطة والثروة بين المركز والأطراف.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.