الاستراتيجية الروسية في افريقيا ودولة الدعم السريع في السودان:

هل رؤية الدعم السريع للحل السياسي تمثل تصور لبناء دولة الدعم السريع عبر تقسيم السودان ؟

0 167
كتب: د. بكري الجاك 
.
من المهم لنا نحن كسودانيين أن نفهم طريقة تفكير بوتين و تأثيره على المنطقة بما فيها السودان، إذ تقوم الاستراتيجية الروسية على ركنين أساسيين، و لا تحتكم إلى أي أطر أخلاقية أو اي مبادئ تتعلق بالعدل و الفائدة المشتركة. الركن الأول هو أن تكون السلطة في يد كليبتوكرات أي فئة صغيرة وقوية ولها القدرة على السيطرة تقوم بوضع يدها على الموارد الرئيسية في الدولة. أما الركن الثاني هو أن الاستثمار في الفوضى أرخص و أفضل من الاستثمار في الاستقرار. الطريقة التي سيطر بها بوتين على السلطة في روسيا بعد التصدعات الكبيرة التي حدثت في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي هي تقريب بعض من رجال الأعمال والعسكريين السيطرة على انتاج النفط و الغاز و السلاح بواسطة هذا التحالف الذي تجمعه المصالح و تديره المنظومة الاستخباراتية الأمنية التي يتحكم فيها بوتين. و ما يفعله بوتين هو السعي الى اعادة انتاج نفس المنظومة في بلدان أخرى مستغلا عدم الرضا العام في دول الجنوب من الغرب، عدم الرضا الناتج من خطابات ما بعد الاستعمار و الشعور بالخيبة من عدم تحقق طفرات تنموية بالطريقة التي وعدت بها مؤسسات الغرب هذه الدول في أعقاب الحرب العالمية الثانية. هذه هي نفس المداخل التي جعلت الصين شريك مقبول لبعض الدول الإفريقية بالرغم من أن الصين لا تقدم شيئا مغايرا من منظور تنموي عن الغرب، نفس القروض المجحفة و الميزان التجاري الذي يصب في صالح الصين و إغراق أسواق هذه البلدان بمنتجات رخيصة مما يعطل فرص تطور الصناعات المحلية التي من دونها من الصعب تصور طفرات تنموية لدول للجنوب، و رغم ذلك تجد الصين تصفيقا من قبل بعض العقول الخفاف من أشباه المثقفين في المنطقة. أما الفوضى بالنسبة لروسيا فهي غير أنها غير مكلفة مثل الاستقرار فهي تعطي فرصة لبيع المزيد من السلاح و تعطي فرصة لشركاتها الأمنية من الدخول ووضع اليد على الموارد من ذهب و يورانيوم و كروم و غيرها، هذا بالإضافة إلى تحقيق هدف استراتيجي آخر هو أن الفوضي في غرب وشمال افريقيا هي مهدد لأوروبا الحليف الاستراتيجي الأول لأمريكا مما يمّكن روسيا من استخدام هذه الصراعات ككروت لعب ضمن منظومة سياسة مخلب القط للحصول على مكاسب في مناطق وملفات أخرى.
و للقاريء أن يسأل و ما علاقة حربنا في السودان و الاستراتيجية الروسية؟ الإجابة ببساطة أن سياسة روسيا في المنطقة ساهمت في خلق فوضى في افريقيا الوسطى وفي النيجر و في مالي و بوركينا فاسو و الآن ربما انقلاب الجابون الذي تم بالأمس على الرئيس علي بونقو ليس ببعيد عن الأيادي الروسية، و قد تكشف الأيام القادمة المزيد. التحولات الجيوبولتيكية لها تأثير كبير على السودان وحربه، و كلنا يعلم أن علاقة الدعم السريع بروسيا ليست بسر يخفي علي أحد، بل أن حتى عمليات الإمداد بالصواريخ الروسية المضادة للطائرات التي يستخدمها الدعم السريع الآن وصلت للدعم السريع عن طريق ليبيا حسب ما تشير المصادر الاستخباراتية و حسب ما نشرت صحيفة الجارديان البريطانية The Guardian من بعدها صحيفة الوول ستريت جورنال Wall Street Journal. وهناك تقارير منذ مدة تحدثت عن تدريب طيارين للدعم السريع في روسيا و بالفعل قام الجنرال دقلو بشراء أربع طائرات ميج 29 من روسيا انتهت في يد سلاح الطيران و هذه من الأسباب الخلافية بين قادة الجيش و البرهان في السابق. أما علاقة الدعم السريع مع شركة فاغنر و بعض الشركات الروسية العاملة في مجال التعدين في الذهب فهي أيضا قد تم كشفها للرأي العام و مبذولة للعامة، قصص الطائرات الروسية التي تقوم بترحيل الذهب الى الإمارات حتى في ظل هذه الحرب عن طريق ليبيا لم تتوقف حتى اللحظة . عليه هنالك دور كبير لروسيا في السودان والمنطقة سوءا بالوكالة أو بالتدخل المباشر عبر التسليح و التأثير في المحيط الإقليمي. هذا بالإضافة إلى أن روسيا ستقوم ببيع السلاح الخفيف الذي لا تحتاجه في حربها مع أوكرانيا للطرفين في السودان، ألم نقل أن الاستثمار في الفوضى أرخص و أسهل من الاستثمار في الاستقرار؟ و لكن و ما علاقة ذلك بقيام دولة الدعم السريع من خلال الرؤية التي طرحها الدعم السريع للحل الشامل و تأسيس الدولة؟
في خلال ثلاثة أيام كتبت مقالين أولهما نشر في يوم 27 أغسطس تحدثت فيه عن الحل السياسي وفق موازين القوى من منظور استراتيجيات فض النزاعات و حينها لم تكن قوات الدعم السريع قد نشرت رؤيتها للحل الشامل، حيث قلت في ما معناه إن خيار هندسة الدولة السودانية بطريقة تحافظ لآل دقلو بوضعية أسرة أميرية و تبقي على امتيازاتهم العسكرية والسياسية أمر غير قابل للتحقق لأنه يتطلب نصر حاسم للدعم السريع على الأرض. و في المقال الثاني الذي كتبته يوم 28 أغسطس بعد نشر قوات الدعم السريع رؤيتها للحل الشامل قلت أن من خلال هذه الرؤية أن قوات الدعم السريع، إذا كانت جادة في هذه الرؤية و انها ليست مجرد موقف تفاوضي، فهي تسعى إلى تحقيق هدف إعادة هندسة الدولة السودانية عن طريق المبدأ الثالث الذي يتحدث عن الفيدرالية المتدرجة غير المتماثلة التي تعطي بعض الأقاليم وضعية أقرب إلى الحكم الذاتي دون غيرها من بقية الأقاليم أو الولايات، و جادلت أن هذا المبدأ مقرونا مع مبدأ إعادة تكوين جيش سوداني مهني من جملة الجيوش المتعددة بما في ذلك قوات الدعم السريع هو الطريق الى اعادة هندسة الدولة السودانية بضمان وجود الدعم السريع ضمن منظومة احتكار الدولة للعنف و عن طريق تقنين وضعية حكم ذاتي يمكن السيطرة عليها بسهولة، هذا مع تحول امبراطورية آل دقلو إلى حركة سياسية ربما تبتلع جزء من حزب الأمة أو بعض مناطق نفوذه التقليدي و الحركات السياسية الأخري.
أنا هنا أعترف بأنني ربما كنت ساذجا بعض الشيء، إذ يبدو أن الاستراتيجية هي تقسيم السودان أولا عبر السيطرة العسكرية و من ثم البدء في عملية تفاوض ندّية بين ثلاثة سلطات، و اذا صحت قراءاتي و تحليلي المبني علي على معلومات توفّر بعضها من مواقع ستلايت ترصد حركة القوات على الأرض، فأعتقد أنه في الأيام القادمة ستقوم قوات الدعم السريع ببسط سيطرتها على ولايات دارفور الخمس ومن ثم ولاية غرب كردفان وشمال كردفان، و المعارك التي تدور الآن حول الأبيض المحاصرة منذ مدة تؤكد وجاهة هذا التحليل. خلال ذلك تقوم قوات الحلو بالسيطرة على ولاية جنوب كردفان و توسيع رقعة الأراضي التي تحت سيطرتها و هذا ما يفسر هجوم الحركة علي كادوقلي دون شرح أو تفسير استراتيجيتها في ذلك. و سيكون التقسيم على النحو التالي: الجيش ( و بقايا الانقاذ) يسيطر تسعة ولايات و هي: نهر النيل، الشمالية، البحر الأحمر، كسلا، القضارف، الجزيرة، سنار، النيل الأبيض والنيل الأزرق بينما يسيطر الدعم السريع على 7 ولايات هي: شمال و جنوب و غرب و شرق و وسط دارفور بالاضافة الى شمال وغرب كردفان، علي أن تسيطر قوات الحلو علي جنوب كردفان و تترك الخرطوم كساحة للنزاع. هذا السيناريو سيجعل رؤية الدعم السريع أمر واقعي وليس موقف تفاوضي فحسب كحد مثالي أعلي أو موقف تفاوضي قابل للحركة كما تصورت في مقالي الأول، بل هذا التحليل يعطي معنى للحديث عن تأسيس وكالة إغاثة تتبع الدعم السريع والتي قد يعقبها حديث عن تأسيس سلطة مدنية و عاصمة قد تكون الأبيض و إذا ما استطال أمد الصراع سيكون المجتمع الدولي مرغما على التعامل مع هذا الواقع في إطار التعاطي مع الأزمة الانسانية التي عاجلا أم آجلا، اذ لابد أن يستجيب لها العالم رغم صمته وتجاهله لها منذ اندلاع هذه الحرب.
اذا صحت هذه القراءة وهذا السيناريو فستكون الخرطوم هي المنطقة التي يتقاتل فيها الطرفان لفترة طويلة و خصوصا أن كل طرف سيكون قد أمّن خطوط إمداده من عدة مداخل و ليس هنالك قلة للشباب الذين يمكن تجنيدهم اذا ما اخذنا في الاعتبار أن متوسط عمر الإنسان في السودان الآن 19 سنة، و ربما يكتفي كل طرف بمواقعه و يكف عن محاولة التقدم لكسب مواقع جديدة و يكون الصراع قد دخل مرحلة جديدة و هذا هو الوقت الذي ربما ستدخل فيه قوى إقليمية لدعم بعض الاطراف علي شاكلة ليبيا حفتر في الشرق وحكومة شرعية في الغرب في طرابلس يهددها حفتر كل حين و آخر، ومع مرور الوقت يولد هذا الواقع ديناميكيات جديدة تتطلب استجابة مغايرة. و ربما ما يؤكد سلامة هذا التحليل المنطقية هو الاصطفاف الاجتماعي و الحملة التي تتم منذ مندة لتجييش المثقفين و المتعلمين من أبناء غرب السودان بالحديث عن أن الدعم السريع قد يكون له مساويء إلا أنه هو قمة استغلال سلطة المركز لضرب الهوامش ببعضها البعض و أن الواقع العملي يتيح فرصة براغماتية لإعادة هندسة الدولة السودانية، وهذا ما يفسر تقديم رؤية للدعم السريع تكاد تكون مانيفستو ثورة الهوامش. و في تقديري هذا ما تم تطويره في مؤتمر توغو، أي وضع لبنات لحركة سياسية من أبناء الغرب تتعالى فوق المكونات القبلية و مرارات الحرب السابقة بين العرب و الزرقة لتلقين سكان هذا الشريط النيلي و الوسط، الذين ظلوا يخدمون كرأسمال رمزي لسلطات المركز و ينتفعون من قربهم من السلطة، درسا في أن استغلال التناقضات القبلية في الغرب يمكن أن يرد لهم في توظيف البندقية (بندقية الدعم السريع) التي هزم بها المركز ثورة الهامش لإنهاء المركز نفسه وتدمير ثرواته، و هذا ربما يفسر التدمير الممنهج للعاصمة في بنياتها حتى يتساوى الناس في البؤس و من ثم يتم تأسيس الدولة على أسس عادلة بعد أن تم تصفير العداد وفق رؤية الدعم السريع. إلا أن أحد التحديات الحقيقية أمام هذه الرؤية هو ما إذا كان هناك رأسمال اجتماعي متجانس و كافي بين مكونات غرب السودان برغم ما يحدث فيه من سحل وقتل على أساس عرقي لينخرط و يصطف خلف هذه الرؤية بكل تاريخ التناقضات و المرارات، هذا اشافة الي هل للدعم السريع الغلبة العسكرية الكافية لفرض إرادة كاملة على كل المنطقة من الأبيض إلى مليط.
خلاصة القول أن روسيا سوف لن تترك هذه المنطقة و شأنها و بخلاف فاغنر فهناك عدة شركات أمنية روسية بدأت تعمل في المنطقة لتنفيذ الاستراتيجية الروسية القائمة على فرض هيمنة أقلية على الموارد والاستثمار في اشاعة الفوضى و هذا نموذج جديد في طرق عمل السياسة الخارجية و يستحق الدراسة الجادة و المتفحصة. أما في ما يخص تقسيم السودان فهو احتمال وارد جدا إذ ليس بمقدور أي طرف في الوقت الحالي تحقيق نصر حاسم ينهي حالة تعدد الجيوش، أما بالنسبة للحل السياسي فحتى هذه اللحظة اذا أخذنا بالمواقف المعلنة للقوات المسلحة (و حلفائها من الإسلاميين) مقارنة بموقف الدعم السريع فيبدو أن المواقف متباعدة ، وكل طرف يعتقد أن تصوره المثالي قابل للتحقق. و بما أن حالة توازن الضعف مازالت قائمة حتي وان تم التقسيم وفق ما طرحنا يصبح هنالك عاملان غير عسكريين سيكون لهما تأثير جوهري على ما سيكون عليه مصير و مستقبل السودان. العامل الأول داخلي و يتمثل في مدى قدرة و نهوض و تماسك المجتمع المدني ضد مشاريع التقسيم و تمسكه بطرح رؤية جماعية لكل مكوناته أساسها المواطنة المتساوية لتهزم هذه التطلعات السلطوية التي تلبس لبوس العدل و الكرامة. العامل الآخر خارجي و هو الدور الأقليمي و الدولي في مساعدة السودان من الانحدار إلى مربع التقسيم و هذا يتطلب جهد من السودانيين في شرح أنه لا يمكن أن تتحقق مصالح أي دولة في الإقليم في تقسيم وعدم استقرار السودان.
بكري الجاك

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.