بيكو و”صرخة الحرية” .. وسقوط الأقنعة في السودان !

0 201

كتب: فضيلي جمّاع

.

فرغتُ للتو من قراءة Cry Freedom (صرخة الحرية – (لمؤلفه جون برايلي. جمع الكتاب بين فن السرد القصصي narrative fiction والسيرة الذاتية autobiography. وعلى الرغم من أنّ مؤلف الكتاب قد وضعه كسيناريو للفيلم الشهير عن حياة المناضل الجنوب-أفريقي ستيف بيكو ، الذي اغتاله نظام الفصل العنصري (أبارتايد) في العام 1977م، إلا إن حياة بيكو – من خلال السرد تتحوّل إلى ملحمة شعبية لنضال شعوب جنوب أفريقيا ضد النظام العنصري الغاشم.

ولعلّ أروع ما في الكتاب ذلك النبض الإنساني الذي يتجلّى في الصداقة العميقة بين الصحفي الأبيض دونالد وودز وبيكو.. إذ تحول وودز جرّاء تأثره بشخصية ستيف بيكو مقدار مائة وثمانين درجة. تحوّل من صحفي ليبرالي – يؤمن بكيان الفصل العنصري لكنه يختلف مع النظام في شطط التطبيق – وهي ليبرالية زائفة ، تلتمس العذر للنظام العنصري هنا وهناك. تحوّل دونالد وودز إلى مناصر لمبادئ (الوعي الأسود) black consciousness التي يبشر بها ستيف بيكو، حيث قام لاحقاً بتأليف كتابين عن بيكو ، استعان بمادتهما الأمريكي جون برايلي في سيناريو فيلم (صرخة الحرية) الذي قام ببطولته الممثل الشهير دينزل واشنطون في دور ستيف بيكو ، بينما لعب كيفن كلاين دور الصحفي دونالدز وود.

للحرية مهرها ، وقد دفع بيكو هذا الثمن بأن فقد حياته وهو شاب في الحادية والثلاثين من عمره – (18ديسمبر 1946 ، 12 سبتمبر1977). لكنّ أفكاره عبر منظمة “الوعي الأسود” ظلت تنتشر بين الشباب والكهول في مساكن السود الفقيرة والتي تقام في الضاحيات البعيدة عن أطراف المدن المسموح بالسكن فيها للبيض والملونين فقط إبان نظام الفصل العنصري!

أروع ما في كتاب (صرخة الحرية) أنّ جميع الشخصيات الرئيسية فيه شخصيات حقيقية، لم يضف إليها المؤلف سوى ما يسمح به المخيال القصصي من نسجٍ للحوار، وقولبةٍ للأحداث الصغيرة التي ربما حدثت كما تخيلها المؤلف أو أنها حدثت بصورة أخرى مشابهة. فالصحفي دونالد وودز- صديق بيكو- تعرض وزوجته ويندي وأطفالهما الخمسة لمضايقات وصلت لأكثر من محاولة من الشرطة السرية لاغتياله وأسرته ، مما أدّى لفراره في مغامرة صعبة إلى ليسوتو المجاورة، لتلحق به أسرته، ثم يهاجر من هناك إلى منفاه الإختياري الجديد في بريطانيا !

من ضمن الشخصيات النسائية التي لعبت أدواراً إيجابية في حياة بيكو زوجته إنتسيكي وصديقته الطبيبة السوداء مامفيلا رامفيلي والتي قامت بدور الإشراف على مركز زانيمبيلو الطبي الذي قامت مؤسسة (الوعي الأسود) بتأسيسه ليقدم الخدمات الصحية المجانية للأحياء الفقيرة في مستوطنات السود النائية والتي لا تجد رعاية طبية من الدولة. جدير بالذكر أنّ الطبيبة مامفيلا رامفيلي حظيت بالتكريم فيما بعد من لدن حكومة الزعيم نيلسون مانديلا إذ تم تعيينها نائباً لرئيس إحدى جامعات جنوب أفريقيا. وقد قامت هي الأخرى بتأليف كتاب عن سيرتها الذاتية، وعلاقتها بزميل الكفاح ستيف بيكو.. أطلقت على الكتاب عنوان: (حياة Life A . (

تلد الثورات العظيمة في غالب الأحيان حكومات قادرة على الحفاظ على مكاسب شعوبها. وهذا ما فعلته ثورة شعوب جنوب أفريقيا بعد انتصارها بقيادة نيلسون مانديلا وآخرين. ففي الذكرى العشرين لاغتيال ستيف بيكو ، احتفلت جنوب أفريقيا بذكرى هذا المناضل العظيم. وقد حضر الإحتفال في مدينة إيست لندن الزعيم نيلسون مانديلا، الذي أزاح الستار عن نصب تذكاري ضخم لاستيف بيكو. كما أطلقوا إسم بيكو على الجسر الكبير لنهر بفالو.

كاتب هذه السطور من المحبين لسيرة وتاريخ وفقه الثورات في عصرنا الحديث. ويرى أن صناعة الوعي تظل دائماً بمثابة البوصلة التي تسير على هداها الشعوب. ولابد لصناعة الوعي من فرسان يملكون الجرأة وشجاعة الرأي- وشجاعة الرأي كما قال أبو الطيب المتنبي “فوق شجاعة الشجعان”. وفي ثورة جنوب أفريقيا ، لم يصنع الوعي مفكرون وروائيون وشعراء وفنانون سود فحسب. هناك كما رأينا في سيرة ستيف بيكو صديقه الصحفي الأبيض دونالد وودز . وبين أدباء جنوب أفريقيا الذين ناهضوا نظام الفصل العنصري عدد من الفنانين والروائيين البيض، منهم : آندريه برينك في الستينات.. ويكتب باللغتين: الآفريكانز (لغة البوير) والإنجليزية. ومن أهم رواياته التي حظرت (موسم أبيض جاف) A Dry White Season. ومنهم ألان باتون صاحب رواية (أبكيك يا وطني العزيز Cry the Beloved Country). ومنهم الروائية والمناضلة البيضاء الحائزة على جائزة نوبل في الآداب نادين غوردامير. إن الوعي هو أكثر ما تخافه الأنظمة الظلامية التي لا يهمها سوى أن تقود الشعوب مثلما يفعل الرعاة مع قطعان الماشية.

عندما خضعت ألمانيا لجنون أدولف هتلر ونظامه النازي البشع، فإنّ أكثر ما خشيته النازية صانعي الوعي من الكتاب والفنانين. لذا قام النظام النازي القمعي بمصادرة أعمال روائيين وفنانين وقفت كتاباتهم ضد مصادرة حقوق الإنسان وحريته. كثيرون من أولئك الأدباء والمفكرين وضعوا في غياهب السجون وصودرت أعمالهم الإبداعية. منهم المسرحي الشهير بيرتولد بريخت وآلفريد آدلر وفرانز كافكا وآندريه جيد ومارك توين وآلبرت آينشتاين وآخرون كثر.

وقد لاقى المدافعون عن الحقوق المدنية في أمريكا حتى الستينات ما دفع بعضهم روحه ثمناً له.. منهم: القس مارتن لوثر جونيور ومالكولم اكس وبعض نجوم السينما من أمثال رود ستايقر وريتشارد وود مارك وسيدني بواتيه والملاكم الأسطورة محمد علي كلاي والناشطة البيضاء جوان ترمبور.

نعود لكتاب (صرخة الحرية Cry Freedom) ، وما علاقة ما أوردناه في هذا المقال بما نعيشه اليوم في وطن إسمه السودان – يعيش شعبه منذ عقود أكثر سنوات التيه بؤساً. لقد كشفت الحرب العبثية الدائرة الآن في عاصمة بلادنا وفي أجزاء أخرى من الوطن أنّ حزمة من القيم التي طالما تباهينا بها ولصقت بجلد الشخصية السودانية قد سقطت في قاع سحيق. إن قيماً مثل الكرم والشجاعة ودحر الظالم بالقوة أو بالتي هي أحسن – مثل هذه القيم إنما هي أشياء مكتسبة ، تبور وتذوى متى وقعت فريسة حالة شرسة معاكسة. لم يدرك الكثيرون أن تجربة الحكم القمعي – وعدتها 54 عاماً من حكم العسكر من جملة سنوات الإستقلال البالغة 67 عاماً – لم يدرك البعض أنّ الفساد الذي ضرب بأطنابه في نظم الحكم والإدارة حيالها قد قضى على تلك القيم التي طالما تغنى بها البعض دون أن يدري أنها ماتت وشبعت موتاً. لست متشائماً – فالكثيرون من أصدقائي يعرفون أنّ الإفراط في التفاؤل أحياناً قد يكون من نقاط ضعفي. لكن من أين يأتي التفاؤل ومن يفترض أنهم صانعو الوعي ومشعلو فتيله تدثروا إبان هذه الحرب بالصمت. بل إنّ بعضهم وقف علناً أو من (وراء الحائط) ليشجع أحد طرفي النزاع في حرب لم تبق ولم تذر.. حرب ضحاياها الفقراء من الجانبين. ولماذا لا أستخدم المفردة الشائعة (المهمشين) ! يقول جان بول سارتر: يشعل الحرب الأغنياء ويموت فيها الفقراء. رأيت سقوط الأقنعة في هذه الحرب كما لم أره من قبل: أدعياء الثقافة و”الوعي الزائف” كما أسماهم الباحث والأكاديمي الدكتور عبد السلام نور الدين – رأيتهم يصطفون خلف قبعة وكلاشنكوف أحد الطرفين المتحاربين سراً أو جهراً ضد قبعة وبذة عسكرية أخرى، وكأني بهم يشجعون فريقاً في كرة القدم ضد فريق آخر. وحين ننادي بوقف الحرب والدمار يقف النازيون الجدد – ومعظمهم تفصلهم بحار ومحيطات من تراب بلادنا الذي احترق في عاصمته الأخضر واليابس ، حتى إنّ الأنهار الثلاثة التي قامت العاصمة على ضفافها كأجمل موقع لعاصمة في أفريقيا خجلت وهي تتسلل برفق وفوقها تدوي المدافع وقصف الطائرات للفقراء في الأطراف بحجة أنهم حاضنة الطرف الآخر المحارب.
ربما أضع حزمة تفاؤلي في شباب ثورة ديسمبر 2018- الثورة التي وقفت هنيهةً تتفرج على الحرب الهمجية ، حتى إذا استحى من أشعلوا نيرها وعرفوا ألا منتصر فيها وأنّ الخاسر هو الوطن – حينذاك ربما يبرز من ثنايا هذا الجيل من يبث الوعي الحقيقي مثلما فعل المناضل العظيم ستيف بيكو وأحرار جنوب أفريقيا !

فضيلي جمّاع
لندن – 29 سبتمبر 2023

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.