البقارة في أم درمان المهدية بين الهجرة والنفي (2-2)
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
لـ”ريكس أوفاهي” المؤرخ الإنجليزي المتخصص في تاريخ دارفور رأي مختلف عن أولئك الذين يرون أن قدوم البقارة المظنون فيهم الولاء للمهدية برابطتهم الإثنية للخليفة، من غرب السودان إلى أم درمان كان لتأمين الدولة المهدية ضد من أراد الانقلاب عليها من أهل الشمال، أو لينعموا بالحكم وخيراته. فقال إن قدوم البقارة إلى أم درمان لم يكن هجرة، بل منفى حملوا عليه حملاً، وبكلفة فادحة لهم بالأرواح والأموال، مما أحسن تدوينه موسى المبارك الحسن في “تاريخ دارفور السياسي 1882-1898” في مطلع السبعينيات ناظراً في وثائق المهدية. فالبقارة وغيرهم من أهل دارفور أبلوا بلاءً حسناً في نصرة المهدية بإزالة الحكم التركي الذي لم يقضوا تحته أكثر من عقد خلافاً للسودانيين الآخرين الذين لبثوا تحته لسبعة عقود، ولكنهم جعلوا من هجرتهم إلى أم درمان مأمورين خطاً أحمر لن تكون إلا فوق جثثهم. فلم يرغبوا، وقد تخلصوا من حكم مركزي في الخرطوم، أن يستبدلوا به آخر من أم درمان. وظل عثمان جانو طوال فترة عمالته على دارفور يحارب تلك النزعة الاستقلالية عند أهلها. فشهدت دارفور معارضة مؤسسية من ممالك تاريخية فيها، ناهيك بجماعاتها القبلية.
بذل الخليفة قصارى جهده ليأتي بقرابته التعايشة إلى أم درمان. وغلب في الكتابات التاريخية أنه إنما أراد مكافأتهم بحياة منعمة في المدينة لقاء الدفاع عن حكمه. والصحيح أنه جاء بهم ليكون رقيباً عليهم وحسيباً. فأمر عامل دارفور عثمان جانو أن يهجرهم. وما بلغ الأمر الغزالي شيخ التعايشة حتى أطلق النار على رسل الأنصار. فأغضب الخليفة أن يرى خاصة قومه يعصون له أمراً. فعزل الغزالي من مشيخة التعايشة، وولى غيره، وحرض عليهم قبائل من البقارة حولهم لقتالهم، وأمر عامله جانو أن يتبع، إذا لزم الأمر لتهجيرهم، سياسة الأرض المحروقة، فيشعل النار في قراهم، ويمنعهم من زراعة أرضهم، وحشد لهم جانو جيشاً، ومني جنوده بغنائم التعايشة متى ظفروا بهم. واستسلم الغزالي للمهدية أخيراً ليحرق الأنصار قراهم حتى لا يعودوا لها. وتم تهجير التعايشة في مجموعات إلى أم درمان على 10 ألف جمل، مما صادرته المهدية من شعب الماهرية لحمل متاعهم وكسوتهم بـ1065 ثوباً من الدمور، ولم ينعموا بأم درمان حتى بعد حلولهم فيها، فشقوا عصا الطاعة وغادروها إلى دارفور في 1890 لتعتقل المهدية الغالي بجريرة تحريضهم على التمرد وقتلته.
وكانت لموسى ماديو زعيم الرزيقات سابقة في المهدية الثورة، ولكنه امتنع عن الهجرة إلى أم درمان، فأرسل الخليفة السرايا تتعقبه كما حرض القبائل من حوله عليه، وانهزم. ولم يجد الحماية حين طلبها من سلطان الفور الذي جعلوه عاملاً على الفاشر، فقبض عليه وأرسله إلى أم درمان ليقتله حمدان أبو عنجة في طريقه إليها في مدينة الأبيض. وأجاز الخليفة قتله بقوله إنه “نقض العهود وتلفظ بحقنا بما لا يليق”. وضرب الرزيقات في الأرض محتمين ببحر العرب الفاصل بين جنوب السودان والسودان الحالي، ولاحقتهم سرايا الأنصار، وأسرتهم. ولم يستسلموا. فسنحت الفرصة لجماعة منهم في أم درمان لتختلس العودة إلى دارها لتفتك بهم سرية أنصار أخرى، فسارعوا إلى بحر العرب، وتواصلت حملات إخضاعهم. واضطروا إلى الاستسلام، ولكنهم اشترطوا طريقاً ملتوياً للهجرة إلى أم درمان لينتهزوا فرصة للهرب، وهاجرت منهم جماعة على مضض،
وتكبد البقارة وغيرهم في دارفور في مقاومتهم للتهجير نقصاً في الأنفس والثمرات، فكان ضحايا الفورة ثلاثة آلاف قتيل في المعركة الأولى بين الأنصار والسلطان في حين فقد الأنصار 35 من جندهم. وفي المعركة اللاحقة قتل الأنصار منهم خمسة آلاف، وقتلوا في المعركة الثالثة 200، وأسروا نساءً وأطفالاً، كما أسروا 130 من الأميرات، بل أصر الخليفة على تهجير الميرم عرفة، منهن لأنه عرف قوة شخصيتها وتأثيرها في أهلها.ولقي الهبانية البقارة شدة كبيرة على يد الأنصار، وكانوا قد لاذوا ببحر العرب طلباً للأمن عند ملك وثني في جنوب السودان اسمه زميو. وقال قائلهم:
أبينا جانو بجنانو (بجنانه)
ودرنا زميو بنيرانو (نيرانه)
فلحق بهم الأنصار، وأسروا منهم آلاف الرجال والنساء، وغنموا سعيتهم، وجردوهم من خيولهم منعاً من أن يهربوا عليها.
صدق أوفاهي على ضوء هذه البينات التاريخية حين قال إن هجرة البقارة إلى أم درمان كانت بالأحرى نفياً لا تفويجاً من الخليفة لقومه ليستعز بهم في أم درمان، كما ذاع بين أهالي شمال النيل. والهجرة فرض في برنامج المهدية لأن دولتها عابرة للأوطان، فمهمتها الأولى تجييش القوى التي بوسعها “فتح المدينة الرومية”. وبدأ الخليفة ذلك بحملته التي سيرها لفتح مصر. ولقي البقارة في معارضتهم للهجرة مقاتلاً وسبياً وتغنيماً ربما فاق، نظراً إلى اتساع نطاق المعارضة وتطاولها، مما وقع من فظاظة بحق جعليّ المتمة على يد الأمير محمود ود أحمد وغيرها من أجزاء السودان الشمالي. ولكن من المؤكد أن ذيوع خبر المتمة دون خبر مثيلاتها في دارفور راجع إلى أن صوت أهلها مركزي، وصوت غيرهم هامشي.