في أمر محاكمة الجندي حكيم تية
كتب:✍🏾 د. عمر شركيان
.
في يوم ١٧ تشرين الأول (أكتوبر ) ٢٠٢٣م عقدت الإدارة العامة للقضاء العسكري بمجمع المحاكم العامة بالفرقة ١٤ مشاة بكادقلي محكمة أسموها محكمة ميدان كبرى لمحاكمة الجندي حكيم بابكر حامد تية، النمرة العسكرية ٦٦٢١٩٠١٩٣، التابع للكتيبة ٢٥٢ إشارة كادقلي، وذلك تحت المادة ١٤٧ ج من قانون القوات المسلحة السودانية، بتهمة مساعدة العدو. وقد أصدر المستشار القانوني بالفرقة ١٤ مشاة، سيادة المقدم حقوقي علي فضل المولى، حكما بالإعدام رميا بالرصاص على الجندي التهيم الماثل أمامه، والطرد من القوات المسلحة، وذلك اعتبارا من تاريخ النطق بالحكم.
في أمر هذه المحاكمة التصويرية للجندي حكيم تية كتب الأستاذ علاء الدين محمد أبكر مقالا في وسائط التواصل الاجتماعي بعنوان “الإعدام يطبق على ناس تية ويستثني قوش وبكراوي والبرهان”، وكذلك نشر الأستاذ برير إسماعيل مقالا هو الآخر في وسائط التواصل الاجتماعي في يوم ١٩ تشرين الأول (أكتوبر ) ٢٠٢٣م بعنوان “حول المحاكمة السياسية/العسكرية الصورية للجندي حكيم تية بتهمة التخابر مع (العدو) الجديد القديم”، فضلا عن الفيديوهات والتعليقات العديدة التي نشرها نفر كريم من أبناء الشعب السوداني الأبي مستهجنين هذا الحكم الباطل. كذلك نجد أن الأستاذ يعقوب التجاني قد أوفى الموضوع حقه القانوني، وإذ أنه قد فند دعاوي الادعاء، وحيثيات سير المحكمة، وإصدار الحكم، وذلك كله من حيث بطلان الإجراءات القانونية التي من المفترض أن تتبع في مثل هذه الحالات، وذلك هو الشيء الذي لم يتم. اكتفاء بما كتبه الأستاذ التجاني سوف لا نخوض في أمر القانون في هذا الشأن، لأننا لسنا من أصحاب القانون، علاوة على أن الأستاذ التجاني لم يترك لنا شيئا في أمر القانون لإضافته، او الخوض فيه.
أما من الجوانب السياسية والأخلاقية، فلنا قول، أو بالأحرى لنقل لنا أقوال، في هذا الأمر الجلل. لا سبيل إلى الشك في أن المحكمة قد افتقدت كل أخلاقيات وشرف المهنة، وإن لم تكن كذلك، لم تمت هذه المحاكمة بالشكل العلني الاستفزازي: صورة وسمعا وبصرا. فهل أراد المقدم حقوقي فضل المولى استفزاز مشاعر النوبة، والهاب عواطفهم، واهانتهم بهذه المحاكمة المهزلة، والعدالة الملهاة! ومع ذلك وقف الجندي تية وقفة رجال، شامخا كالطود أو كجلمود صخر من صخور جبال النوبة، فلم ترمش له عين كما يحدث للذين ينطق في حقهم بحكم الموت، ولم يرتد بصره، عكسما ما بدا من هول الرعب الذي انتاب المقدم فضل المولى، حيث كان يقرأ حيثيات الاتهام، ومن ثم نطق بالحكم، وعيناه تتحملقان علوا وهبوطا، ولغة جسده يشي بشيء من الرعب شديد، وهو الذي كان يترنح يمنة ويسرة، ولا يكاد يستقر على حال في كرسيه، وقد ضاقت به الأرض بما رحبت، وسوف تضيق به أكثر أكثر إن أقدمت القوات المسلحة على تنفيذ حكم الإعدام الجائر هذا على هذا الجندي التهيم دون أن تتوفر له أبسط شروط العدالة. الناظر إلى المقدم حقوقي فضل المولى، وهو ينطق بالحكم على الجندي تية، سوف يحسب بأنه هو المحكوم، والجندي الواقف أمامه بكل عزة وكبرياء هو الحاكم.
الجناة في السودان كثر، لكنهم لا يحاكمون ولا يعدمون! هل تم تنفيذ حكم الإعدام على قتلة الأستاذ أحمد خير، وكلنا نعلم الطريقة البشعة التي بها تم قتله؟ وهل تم إعدام الذين كانوا يعذبون ويقتلون المعارضين السياسيين في بيوت الأشباح دون ذنب جنوه إبان نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، الذي دام ثلاث حقب؟ هل تم إعدام الذين قتلوا المدنيين العزل في جنوب السودان وجبال النوبة والنيل الزرق ودارفور، وما زالوا يقتلون حتى هذه اللحظة، بل ها هم يمشون في الرض مرحى، وياكلون الطعام ما لذ منه وما طاب، ويتجولون في الأسواق دون وجل أو خوف؟ وهل تم تنفيذ حكم الإعدام على الجيش وقوات الدعم السريع ورجال الأمن، الذين قاموا بمذبحة القيادة العامة في ٣ حزيران (يونيو) ٢٠١٩م، والناس صيام في شهر رمضان، ثم القتل الذي استمر بعد ذلك في التظاهرات العديدة ضد العسكر، حتى الذين تمت ادانتهم، وحكم عليهم بالإعدام في أم درمان والأبيض، لم يتم تنفيذ حكم الإعدام عليهم، كما نطق القضاء المدني بذلك، ووفرت لهم المحكمة كل سبل المحاماة والعدالة؟ إذا، كيف يتم النطق بحكم الإعدام على الجندي تية بتهمة التخابر مع العدو، الذي لم يفصح عنه المقدم حقوقي فضل المولى، واكتفى بالإشارة إليه تلميحا، مع العلم أن اللبيب بالإشارة يفهم! وكيف يقتل من لم يقتل أحدا!
في العام ١٩٨٤م اتهمت حكومة الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري الأب فيليب عباس غبوش ومجموعة من أبناء النوبة الجنود في القوات المسلحة بتدبير محاولة انقلابية للسطو على الحكم، وهي تلكم الانقلابات التي أضحت تعرف في الأدب السياسي في السودان بالانقلابات العنصرية. تلك فرية ظل أهل العقد والحل في الخرطوم يطلقونها جزافا على أهل الهامش كلما هبوا لانتزاع حقوقهم الدستورية والإنسانية، وهي تلك الأوصاف التي لا يطلقونها على أي انقلاب قام به، أو يقوم به، أولاد النهر النيلي: تلكم هي العنصرية البلقاء تمشي على قدم وساق. على أية، حال درست الاستخبارات العسكرية الموقف زمنئذ، ولامست الشعور العام وسط أبناء النوبة في القوات المسلحة، ونظرت إلى عيونهم، وقد امتلأت شررا، وملىء أهل الحكم في الخرطوم رعبا، وجاءهم الوعيد بأن انتزاع شعرة واحدة من شعر الأب فيليب غبوش سوف تجري الخرطوم بالدماء القانية، واحتكمت السلطة المايوية إلى العقل، وكتبت اعتذارا سلموه إلى الأب فيليب غبوش ليقرأه في المحكمة أمام القاضي، ومن ثم تمت براءتهم كلهم أجمعين. رحم الله الأب فيليب غبوش فقد كان الأب الروحي لنضال النوبة، وشعلة أمست تحترق من أجلهم، ثم إنه كان قد افتتح لهم أبواب التوق إلى الحرية والعدالة والمساواة، التي كانت مغلقة أمامهم. وقد حدثني محدثي بأن القائد العسكري الذي كان مسؤولا عن تأمين قاعة المحكمة، التي كانت تتم فيها محاكمة الأب فيليب غبوش ورفاقه، كان ينتظر لحظة النطق بحكم الإعدام لكي يفجر القاعة بكل من فيها: قضاة ومحامين وغيرهم. وما أن سمع بأن القاضي قد برأ المتهمين حتى انهمرت الدموع من مقلتيه ساخنة، وحين يذرف الرجل الدموع سخاخينا، ينبغي أن يدرك الجميع أن الأمر جلل. بيد أن الشهيد الأستاذ محمود محمد طه لم يلق هذا التعامل، بل لم يكن هذا الرجل الورع الصنديد يحمل سلاحا في وجه الحاكم الطاغية، بل قرطاسا، ومع ذلك نفذ فيه نميري حكم الإعدام دون أن يكترث لكبر سنه، وعفة لسانه، وذلك لأنه لم يكن له جند يخاف منهم النظام.
الجندي تية اليوم بين أيديكم، ايتها السلطات الجائرة، وإذ يطالب شعب النوبة كافة، وأهل السودان عامة من محبي العدالة بإطلاق سراحه فورا، وقد ان الأوان على القيد المعقود على رجليه أن ينكسر اليوم قبل الغد. ليست هناك أية حكومة في السودان، حتى تتم محاكمة الجندي تية، فوزير الدفاع كان قد هرب من الخرطوم، وذهب إلى أهله يتمطى في كردفان، والسلطة المؤقتة في بورتسودان عليها أن تثبت للشعب السوداني أنها حاكمة، وتستطيع أن تحميهم من عدوان وتجاوزات قوات الدعم السريع، قبل تطبيق قانون الغاب على فرد عزيز من أشرف أبناء جبال النوبة.