الأسس المعرفية للكوزوفوبيا
كتب: د. محمد جلال أحمد هاشم
.
الكوزوفوبيا، في رأيي طبعا، هي رد الفعل النفسي والآلي، غير النقدي، لظاهرة هروب ملايين الناشطين سياسيا من السودان (أو الرغبة الملحة لذلك) في أعقاب مجيء حكم الكيزان عام 1989م. فبحلول منتصف تسعينات القرن العشرين خلا السودان، أو كاد أن يخلو، من الغالبية العظمى من الناشطين سياسيا. فقد هربوا بالملايين إلى المنافي الغربية بصفة خاصة، بوصفهم هاربين من تنكيل نظام الكيزان. حتى الذين لم يكونوا قد تعرضوا لبطش نظام الكيزان تظاهروا بذلك وألفوا في ذلك القصص. وبالتالي، في سبيل تبرير تغريبتهم التي لم تنتهِ حتى الآن، لأنفسهم أولا ثم ثانيا لأنظمة اللجوء في الدول التي انتهى بهم المقام فيها، ولمجمل تمظهرات بروزهم كجاليات سودانية في الدياسبورا اضطرتها ظروف استثنائية وقاهرة، ثم نبيلة، للهروب جماعيا من وطنهم، كان لا بد من المحافظة على، وتغذية، سردية Narrative نظام الكيزان، لا بوصفه نظاما باطشا فحسب، بل بوصفه قد أصبح دولةً عميقة يصعب، إن لم يكن مستحيلاً، إزالتها. وقد خدمت هذه المبررات حقيقة أن كل هؤلاء الهاربين (والراغبين بشدة في الهروب) قد أقضّت مضاجعهم هاجسة بعينها يا طالما استشعروها دون أن يواجهوها نقديا، ألا وهي هاجسة أنهم لم يعودوا قادرين على احتمال الحياة في وطنهم الأول، السودان، بعد أن ذاقوا طعم العيش في الغرب (أو تخيلوه في أحلام يقظتهم) من حيث التعود على نظام الحياة بالغرب، أو من حيث نشأة الأطفال هناك وانبتات غالبيتهم العظمى عن ثقافات ولغات وطنهم الأول .. إلخ. وفي الحقِّ، فقد استبطنت تغريبة هؤلاء داخل جوّانيّات قطاعات غالبة منهم هروبا ولواذا من السودان نفسه ومشاكل السودان وتدهور الأوضاع فيه. وهذا أيضا مما لم يتمكنوا من عقلنته نقديا، ذلك ضمن نزعة الهروب وغريزة القفز في الظلام.
وهكذا، متزامنا مع تقنيات العولمة والتواصل الاجتماعي في عصر ما بعد الحداثة، برز للوجود في المخيال المهجري الغربي لسودانيي الشتات فولكلور النضال المفتعل افتعالا ضد نظام الكيزان بوصفه نظاما شيطانيا لم يُسبق (حقيقةً تاريخية)، كما لن تشهد البلاد له مثيلا إلى نهاية التاريخ (أوهام أيديولوجية). فأنت لا تلعب كرة القدم من مقاعد المتفرجين مهما بلغت بك الحماسة. ولكن هؤلاء (متماهين مع الكيزان وصورة نظام الكيزان التي افتعلوها) أرادوا أن يفعلوا ما لم يفعله أحد من قبلهم ولا من بعدهم، ذلك بأن يلعبوا كرة القدم من على مقاعد المتفرجين. فقد أرادوا أن يسقطوا نظام الإنقاذ من منفاهم، دون أن ينزلوا إلى الملعب بأن يعودوا إلى وطنهم السودان وينازلوا الكيزان في ميدان السياسة ذراعا بذراع، ومنكبا بمنكب. وهكذا، ضمن هذا الفولكلور السياسي المفتعل، ظهر إلى الوجود في المخيال السياسي ظاهرة مناضلي الكيبورد بوصفهم رأس الرمح في النضال ضد الكيزان، وكذلك بوصفهم يمثلون ضمير الشعب في نضاله النبيل ضد الكيزان، لا مجرد وسيلة من وسائل التعبئة الجماهيرية المتساوقة مع تقنيات عصر العولمة. وعلى هذا أيضاً ظلت تداهمهم أحلام اليقظة والمنام معاً، تهدهدهم بالأماني وبأنهم عائدون، عائدون لا شك في ذلك، متى ما نجحوا في إسقاط نظام الكيزان من منفاهم. وعندها فقط سوف ينزلون إلى أرض الملعب كيما يشاركوا في اللعبة، لا كلاعبين، بل كحكام، حتى لو حكام خط.
هذا فولكلور سياسي غرباني Western تمكن من الانتشار داخليا، ذلك بحكم أن حراس وسدنة هذه السردية هم المحظوظون الذين تمكنوا عبر هذا الفولكلور نفسه من كسر طوق الحصار والهروب من السودان إلى المنافي الغربية بوصفها حلم ومشتهى القاعدين، الماكثين بالوطن الذين حكم عليهم “سوء الطالع الذي لازم الشبل بندر” الذين لم يجدوا من الوطن فكاكا، وما استطاعوا إلى الهروب سبيلا. وهكذا تماهى سودانيو الداخل، وكذلك سودانيو الاغتراب الشرقاني Eastern مع هذا الفولكلور وأصبحوا يتفاعلون مع وضعهم السياسي عبر هذه السرديات، ولم لا! إذ لا بد من أوروبا الغربية ولو طال السفر؛ وإلا، فلتكن أمريكا (أم الدنيا)، أو كندا، وفي أضعف الإيمان ل(قليلي الحظوظ والأقسام) فأستراليا أو حتى نيوزيلندا (البعيدة). والمنى، كل المنى، إنكلترا، ويا حبذا، حيث الشحّاذون والأطفال يتكلمون الإنكليزية بطلاقة. لا غرو أن وجدنا منهم الكثيرين يفردون أشرعتهم للهجرة مرة أخرى بمجرد حصولهم على الجنسيات الأوروبية، لا باتجاه الوطن المهروب منه، غير المرغوب فيه، بل صوب إنكلترا [كذا]، حتى لو كانت ويلز. فكله عند العرب صابون.
***
وكما ترون، فإن استمرار هذه السردية فيه تبريرات وجودية، أيديولوجية، عبرها يتصالحون مع حالة الاغتراب Alienation التي تورطوا فيها، ذلك عندما هربوا في حقيقتهم من هرة (الكيزان) منفوشة الشعر من خوفها هي نفسها ليقعوا في أحضان النمر الحقيقي (الغرب الرأسمالي الإمبريالي). فقد كانوا كمن ركب البحر المحيط بلا مركب وبلا شراع. وكلما تقطعت بهم الأسباب دون الوطن، وكلما شعروا بوخزات الاغتراب والاستلاب مع نمو الجيل الثاني منهم، كلما تملكهم الإحساس بخيبة المسعى ومرارته، لكن دون أن يواجهوه ليبتنوا له فهما نقديا موضوعيا. فماذا وكيف يفعلون؟ لا بد من أحد ثلاثة حلول: الأول منها قرار ثوري بالعودة إلى أرض الوطن نهائيا (هناك قلة قليلة منهم فعلت ذلك)! والثاني منها هو التصالح مع حقيقة الهجرة التي لا عودة منها ومن ثم العمل على احتلال المكانة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لهم ولأجيالهم اللاحقة في وطنهم الجديد ليصبحوا هناك مواطنين من الدرجة الأولى بوصفهم مهاجرين ذوي أصول سودانية (هناك قلة قليلة منهم فعلت ذلك). والثالث (الغالبية الساحقة) منها هو مواصلة الهروب والقفز في الظلام ومكابدة سخائم الاستلاب والاغتراب ومراراته، ذلك بالعيش في المهاجر كسودانيين، وباعتبار أنها ستكون لفترة قصيرة ريثما يعودون إلى الوطن بعد إسقاط نظام الكيزان (الكديسة الخائفة المرعوبة طول عمرها) من منفاهم بمساعدة الغرب (النمر المفترس). للتعايش مع مثل هذه الورطة يحتاج المرء إلى تبريرات قوية لا ينفذ المنطق دونها، وهنا لا توجد غير الأيديولوجيا. ولأن الأيديولوجيا عبارة عن فيروس Virus يعيش داخل الثقافة، ويمكن أن يسافر من خلالها في الزمان والمكان، تم اختراع الفولكلور النضالي المفتعل هذا ضد قوى الشر والظلام الأبدية: الكيزان! نعم، الكيزان، ونظامهم الشيطاني الذي لم ولن يخلق مثله في البلاد! وبالتالي لا بد من الاستعانة، بل الاتكال على قوة عظمى لمنازلتهم: إنها الغرب بقيادة أمريكا!
***
الكيزان هم فعلا يفوقون سوء الظن العريض من حيث طويتهم، إلا قليلٌ، قليل. لكن هذا لا يعني أنهم مسيطرون إلى الأبد على حرائك الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد كما يعتقد هؤلاء. هذا بجانب الشواهد الماثلة التي تشير على تشتت كلمتهم وتناحرهم منذ السنة الثانية من حكمهم. وقد صرخت البينات والأدلة الحية والمعاشة التي تثبت هذا، بجانب الانقسامات والتصفيات ثم الاعترافات. لكن مين يقنع الديك! فالأيديولوجيا تصنع الوهم وتبرر أفظع الأفعال وأكثرها منافاةً للمنطق والحس السليم. وهكذا بدلا من تواجد الكوز في حياتنا وتنقيصه وتكديره لها وإفسادها، أصبح لدينا كذلك الكوز المضاد. والله فعلا الكيزان يفوقون سوء الظن العريض!
***
وللحديث بقية، وفي الحديث شجون وشئون!