سقوط نيالا… وعودة التفاوض في جدة

0 72

كتب: أمجد فريد

.

في 29 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أعلن بيان مشترك صادر من ميسري منبر جدة التفاوضي عن معاودة المحادثات بين القوات المسلحة السودانية و “قوات الدعم السريع”. ويتألف الميسرون من المملكة العربية السعودية، والولايات المتحدة، بالإضافة إلى الهيئة الحكومية للتنمية (الإيقاد) والاتحاد الأفريقي. وكان الاثنان الأخيران قد انضما إلى هيئة الميسرين لمنبر جدة في سعي لتوسيع قاعدة المشاركة الإقليمية في رعاية المنبر.

وقد تزامن إعلان معاودة التفاوض، مع هجوم شرس استمر لأربعة أيام شنته “قوات الدعم السريع” على مدينة نيالا- عاصمة ولاية جنوب دارفور، وانتهى باستيلائها على المدينة وانسحاب الفرقة 16 من الجيش السوداني التي كانت تتمركز هناك. وبالرغم من دعوة المسؤول في “الدعم السريع”، عبد الرحيم دقلو، المواطنين المدنيين لمواصلة حياتهم بشكل طبيعي، وإعلان تعيين قائد جديد لقوات الشرطة، والشروع في تكوين حكومة مدنية لإدارة الولاية، إلا أن الأخبار الواردة من المدينة تحدثت عن الاعتداءات الوحشية التي قامت بها “قوات الدعم السريع” على السوق المركزي في نيالا وقيام “قوات الدعم السريع” بنهبه وتدميره بشكل واسع. بالإضافة إلى الاعتداء على الأطباء والكوادر الصحية واحتلال المستشفى الإيطالي العامل في المدينة. وانتشرت في الوسائط الاجتماعية تسجيلات فيديو يعكس تعامل “الدعم السريع” مع العاملين في المستشفى.

كما قامت “قوات الدعم السريع” بالهجوم على منازل وأحياء المدنيين عشوائيا بهدف تهجيرهم وطردهم من المدينة، وهو ما نتج عنه مقتل وإصابة أعداد كبيرة من المدنيين، بينما يرفع أفراد “قوات الدعم السريع” شعار “ما دايرين زرقة”، وهي الكلمة المستخدمة للإشارة إلى القبائل غير العربية في دارفور.

ثالث المدن
نيالا هي ثالث أكبر مدن السودان، وهي عاصمة ولاية جنوب دارفور التي تشترك حدودها الغربية مع جمهورية أفريقيا الوسطى التي يحكمها نظام داعم بلا خفاء “الدعم السريع”، جراء ارتباط الاثنين بعلاقات وثيقة مع مرتزقة “فاغنر”. بل إن هذه “القوات” أقدمت وبشكل منفرد على إغلاق الحدود مع أفريقيا الوسطى في مطلع هذا العام لحماية النظام هناك من الانقلاب عليه، وهو ما أثار وقتها توترات مع الجيش، كما سهلت “الدعم السريع”- أكثر من مرة- انتقال عناصر ومعدات حربية تابعة لـ”فاغنر” من ليبيا إلى أفريقيا الوسطى عدة مرات خلال العامين الماضيين. كما تضم الولاية منطقة أم دافوق والتي أنشأت فيها “فاغنر” قاعدة عسكرية لتدريب مقاتليها ودعم عملياتها في الإقليم عام 2022 وهي المنطقة التي استمرت تحت سيطرة “الدعم السريع” منذ اندلاع الحرب.
تكشف هجمة “الدعم السريع” على نيالا وسعيها للاستيلاء على ولاية جنوب دارفور وبسط السيطرة عليها، تغيرا جديدا في استراتيجية “الدعم السريع” في الحرب. فبعد دمار العاصمة الخرطوم ومعارك الكر والفر التي لا تزال تجري هناك، وخسارة “الدعم السريع” للحرب الأخلاقية جراء انتشار عمليات النهب والسلب والاغتصاب التي ارتكبها أفرادها، تتجه “الدعم السريع” لنقل الحرب بكثافة إلى دارفور، حيث يسهل عليها تلقي الدعم اللوجستي والعملياتي والإمداد بالسلاح عبر الحدود من الأطراف الداعمة لها أو عبر أراضيهم. كما تضم عاصمة الولاية نيالا مطارا حديثا قادرا على استقبال رحلات خارجية بشكل مباشر، وهو المطار الذي أهلته بعثة حفظ السلام الدولية إلى دارفور (يوناميد) لاستقبال رحلاتها إلى دارفور إبان وجودها في الإقليم؛ فسيطرة “الدعم السريع” على نيالا ليست مجرد استراتيجية تصعيد وتحقيق مكاسب على الأرض قبل الدخول في المفاوضات كما يتصور البعض، بل هي تغيير كبير وانتصار حقيقي لـ “الدعم السريع” في سياق الحرب الأهلية في السودان. وبسط سيطرتها على الولاية يسهل وصول الإمداد والدعم الاستراتيجي من حلفائها بالخارج. وهو توجه لا ينبئ عن نية لوقف الحرب أو الوصول لحل تفاوضي لإنهائها.

وعليه، فإن “الدعم السريع” تذهب للتفاوض في جدة وأقوى أوراقها فيه هو احتلالها لبيوت المواطنين والمرافق المدنية في الخرطوم العاصمة وفي مناطق البلاد الأخرى التي تفرض سيطرتها عليها. وبالرغم من الاتفاقات السابقة لحماية المدنيين التي تمت في جدة، فلا تزال “الدعم السريع” ترفض الالتزام بها، أو حتى مناقشة تنفيذها قبل بدء تفاوض جديد. وهو ما يكشف عن أنها تُفاوض ليس بغرض إيقاف الحرب، أو إنهائها، بل بغرض خلق قبول دولي ودبلوماسي لنفسها من خلال تصوير نفسها بأنها منخرطة في عملية البحث عن حل لإيقاف الحرب كما يرغب الوسطاء والميسرون. وهو الأمر نفسه الذي ظلت آلتها الإعلامية وحلفاؤها المستترون خلف شعار إيقاف الحرب يروجون له.
لم تستطع “الدعم السريع” وحلفائها الإعلاميين إخفاء غبطتهم في الاحتفاء بسقوط نيالا في قبضة الميليشيات، وترويج تسجيلات قياداتها المفاخرة بنصرها. في حين لم يفتح الله عليهم بأي إدانة مبدئية لما حدث من انتهاكات في نيالا أو ما ظلت ترتكبه “الدعم السريع” من جرائم في غرب البلاد، بدءا من جرائم التطهير العرقي ضد المساليت في ولاية غرب دارفور والهجمات على معسكرات النازحين وتدميرها وتشريد مئات الآلاف منهم مرة أخرى، بل حتى جريمة الاغتيال السياسي لوالي غرب دارفور الراحل خميس أبكر- وهو قائد سياسي معروف- والتمثيل بجثته بعد ذلك، يتم تناسيها وتجاهلها وسط صخب “الدعم السريع” الإعلامي عن حقوق الهامش وإنهاء التمايزات التاريخية، وكأنما أهل دارفور من القبائل غير العربية ليسوا من أهل الهامش، وأن الجرائم والانتهاكات التي تعاود “الدعم السريع” ارتكابها ضدهم- بالأصالة عن نفسها الآن بعد أن نشأت وقوت شوكتها وهي تمارسها ضد الضحايا أنفسهم بالوكالة عن نظام البشير- هي في سياق المعقول والمقبول لبناء الديمقراطية والحكم المدني وإنهاء الاختلالات التاريخية للدولة السودانية التي تأسست سنة 1956.

تصريحات حماسية
لقد وصل هذا الجنون لدرجة التصريحات الحماسية التي صدرت عن ياسر عرمان، رئيس فصيل الحركة الشعبية- التيار الثوري، وعضو المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير، والذي تحدث عن ضعف الجيش الذي تسبب في سقوط نيالا ونسبه إلى وجود عناصر الفلول في صفوفه، من دون إشارة إلى درجة وجود الفلول في صفوف الميليشيات، والتي وصلت لدرجة تجول عثمان طه الحسين مدير مكتب الرئيس المخلوع عمر البشير مع المستشار السياسي لـ “الدعم السريع” يوسف عزت لمدة أسبوع كامل في أروقة الأمم المتحدة، خلال فترة انعقاد أعمال الجمعية العامة، للترويج للميليشيات ومحاولة البحث عن وضع دبلوماسي لها.
ولكن هذا التدليس المستمر بشكل منهجي منذ بدء الحرب يهدف إلى تصوير “الدعم السريع” بمظهر المناضل ضد عسف وشمولية نظام الإسلاميين المخلوع ودعم سردية الواقع البديل التي تحاول قوات الدعم السريع ترويجها إعلاميا والممتلئة بالشعارات الكلامية حول الحكم المدني والديمقراطية. وبطبيعة الحال، ليس ذلك بمستغرب على ياسر عرمان، فقد كان يصرح بالتزامن مع ختام اجتماعات الجبهة المدنية في أديس أبابا والتي ضمت أيضا عضو مجلس السيادة السابق محمد حسن التعايشي، ووزير العدل السابق نصر الدين عبدالباري، اللذين لم يجف حتى الآن مداد أوراقهما المقدمة في مؤتمر حشد الدعم السياسي للميليشيات الذي انعقد في توغو شهر يوليو/تموز الماضي.
ما يقفز فوقه منطق هذا التدليس المعوج، هو أن الإسلاميين لا يدعمون الجيش في هذه الحرب السيئة، بل إنهم يدعمون الحرب واستمرارها انتقاما من الشعب السوداني الذي أطاح بحكمهم، ويحاولون عبر هذه الحرب العودة إلى التحكم في مقاليد البلاد على أي حاملة تأخذهم لذلك. وليس أدل على ذلك من انتشار كوادرهم بين خندقي الطرفين المتحاربين. فكما أن للإسلاميين كوادر في أماكن مفصلية في الجيش، فكوادرهم الداعمة لـ “الدعم السريع” المنخرطة في صفوفها بارزة بشدة، من مدير مكتب البشير السابق طه عثمان الحسين، ونائب البشير السابق حسبو عبدالرحمن، وعبدالغفار الشريف مدير الأمن السياسي في عهد البشير، والذي كان قبلها مدير مكتب نافع علي نافع، بل وحتى كبير مفاوضيها الآن في جدة فارس النور، وهو صاحب العلاقات الوثيقة مع قادة الحركة الإسلامية وقيادات النظام المخلوع قبل سقوطه، مثل علي عثمان محمد طه، وعبدالحليم المتعافي، والزبير أحمد الحسن، وغيرهم من كوادر الإسلاميين الذين يتحكمون في مفاصل حركة “الدعم السريع”، ويشاركونها في استثماراتها الاقتصادية.

والموقف ضد الحرب هو موقف مبدئي مشفق على السودانيين من ويلات الحرب ومأساتها، وهو موقف الثورة التي أطاحت بحكم الإسلاميين الذي أذاق شعب السودان الأمرين وترك صنائعه وبقاياها ليشعلوا هذه الحرب التي دمرت البلاد وشردت العباد. وهذا الموقف لا يمكن تجييره بالتدليس الإعلامي لمناصرة هذا الطرف أو ذاك في خضم هذه الحرب… هو موقف ضدهم في الخندقين. وهذا هو الأمر الذي يتجاهله مناصرو “الدعم السريع” الذين يتدثرون وراء شعار “لا للحرب”؛ إنهم يهزمون هذا الشعار بانحيازهم الفاضح وموالاتهم لأحد أطرافها. هذا الموقف بشكل مبدئي معني بإنهاء حالة الاقتتال، فلا يستقيم أن يدخل في حسابات صاحبه، من انتصر على من في أي معركة حربية ومن استولى على ماذا بقوة السلاح؛ لأن هذا الموقف في صميمه ضد وجود السلاح في ساحة التدافع السياسي. أما محاولات التدليس به فهي محض انتهازية سياسية ليس إلا.

ربطت بعض الأطراف السياسية وأغلبها كان في معية المؤتمرين في أديس أبابا في الأسبوع الثالث من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ربطت وجودها السياسي ببقاء “الدعم السريع”. وهو خطل سياسي كبير؛ فالسياسة في صميمها هي سبيل البحث عما ينفع الناس، ويوفر أمنهم وسلامتهم ورخاءهم ومعيشتهم بشكل طبيعي. سد حاجة الأمن والعيش كما قال ابن خلدون الذي عرف الواجب الرئيس للدولة بأنها لمنع عدوان الناس ضد بعضهم البعض. محاولة تجاهل هذا العدوان الذي أصاب الناس في أرواحهم وبيوتهم وأعراضهم وممتلكاتهم وإعادة تعريف السياسة في البحث عن توزيع المناصب ومحاولات احتكارها بقوة السلاح أو بالتدليس الإعلامي بمعزل عما يحدث على أرض الواقع من إجرام، فهو منهج فاسد لا ينتج سوى طغيان جديد. وتزداد حدة فساد هذا المنهج في خضم هذه الحرب التي أحالت السودان إلى أكبر كارثة إنسانية من حيث الأرقام في وقتنا الحالي. التدافع السياسي المعزول عن الطرق المستمر على هذه الكارثة الإنسانية، وتذكير العالم بها، يساهم وبشكل مباشر في حالة التعايش الدولي وتناسي المأساة الإنسانية في السودان. فإذا كان النادي السياسي السوداني وقادته يأتمرون في هذه العاصمة أو تلك، لتكوين جبهات موحدة لتمثيله واختيار هذا أو ذاك في المناصب والبحث عن سبل التواصل الخارجي لضمان التمثيل في هذه المفاوضات أو تلك العملية السياسية، دون أن يفتح الله عليهم بكلمة في ذكر ما يقع بالسودانيين من ضيق في العيش ومعاناة وانتهاكات وتشريد ونزوح، فالأحرى ببقية العالم أن يلتفت إلى مشاغله الأخرى في وقت يضج بالأزمات والمعارك والكوارث… من أوكرانيا إلى غزة إلى أذربيجان وغيرها.

لا سيناريو منطقيا
لا يوجد سيناريو منطقي يمكن فيه لـ “الدعم السريع” العودة لتصبح جزءا من الممارسة السياسية الطبيعية في البلاد؛ فقد أغلقت ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 باب الخضوع للسلاح في السياسة السودانية إلى الأبد. العلاج المر لهذه الحرب المدمرة يتطلب القبول بأي تضحيات أو تنازلات لوقف الاقتتال وقتل السودانيين ودمار بلادهم. هنا يصبح طرح خروج آمن من البلاد لقائد “الدعم السريع” محمد حمدان دقلو ونائبه الذي هو شقيقه عبدالرحيم، بالإضافة إلى عصبتهم المقربة في قيادة “الدعم السريع”، مقابل وقف الاقتتال والدمار المستمر في السودان مصحوبا مع حل قوات الدعم السريع وتسريح جنودها والعمل على إدماجهم في مجتمعاتهم بشكل طبيعي. أما محاولات الحفاظ على وجود مؤسسي للميليشيات واستمرار قادتها في المشهد السياسي في السودان، فهو أمر غير معقول ولا مقبول بعد كل ما حدث.
نهاية وجود “الدعم السريع” كمؤسسة ينبغي أن يصاحبه الشروع في عملية إصلاح شاملة في الجيش السوداني، والمدخل الأول لها هو إخراج جرثومة التسييس منه وليس إضافة جيوب سياسية جديدة له كما يريد أصحاب فكرة دمج الميليشيات في الجيش. وينبغي على قيادة الجيش إخراج كافة الضباط المسيسين وعلى الأخص الإسلاميين الذين عملوا على إشعال فتيل هذه الحرب من صفوفهم. هذه هي الخطوة الأولى من أجل استعادة الجيش لدوره الطبيعي ثم العمل على تطويره وتحديد عقيدته القتالية ودوره الوطني الذي يستطيع لعبه بشكل طبيعي خارج مجالات السياسة والاقتصاد وإدارة شؤون الدولة وكل الملفات التي انشغل بها الجيش وقادته وأهملوا واجبهم الأساسي حتى أصبح بهذا الشكل المهلهل الذي نراه الآن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.