الطبيعة المتغيرة للحرب في السودان و تضاؤل فرص الحلول المحلية: هل التدخل الدولي الأممي هو الخيار الآن رغم صعوبة تحققه؟

0 53

كتب: د. بكري الجاك

.

في الرابع عشر من أغسطس كتبت مقالا بعنوان “الحرب في السودان ربما في طريقها للتوسع و استطالة أمدها: إذا ما شاهدنا حتى الآن هو الجحيم فلكم أن تتخيلوا ما بعد الجحيم!” و جادلت في ذلك المقال أن الحرب في السودان في طريقها إلى التوسع و أن طبيعتها ستتغير في أكثر من مستوي من حيث فقدان السيطرة على الجيوش و تخلق صراعات أخري محلية بمعزل عن السردية الكبرى التي تصف الحرب على انها حرب القوات المسلحة مع قوة متمردة هي الدعم السريع، و لاحقا تطور خطاب سلطة الأمر الواقع إلى حلها بواسطة قرار من الجنرال البرهان و من ثم نعتها بأنها ميليشيا متمردة، و حتى هذه اللحظة لا يدري السودانيون و لا البرهان نفسه أن من أين له الشرعية التي تمكنه من تعيين وإعفاء و حل و ربط، و هو قائد الجيش الذي تخلى عن قواته في عاصمة البلاد و ينظر الي حاميات قواته المسلحة تسقط الواحدة تلو الأخرى و لا فلاحة الاستخباراته العسكرية إلا فى التضييق على المدنيين و القوى السياسية الرافضة للحرب و من خلفه من الغوغاء من الاسلاميين التى تروج الى معارك وهمية لا تحدث الا فى خيالهم و تصدر صكوك الوطنية و الخيانة للسودانيين من كل حدب وصوب، لكنها تعجز عن أن تتحدث عن مدى ضعف وهزالة قوات مسلحة صرف عليها ما كان يمكن أن يعمّر هذه البلاد و يحولها إلى دولة مستقرة و آمنة و فاعلة فى القرية الدولية لا أن تتشرد شعوبها في القبل الأربعة و تخضع نسائها الى اسوأ ما يمكن أن يتصوره العقل من عبودية جنسية بواسطة قوات الدعم السريع من الخرطوم الى كتم.
الآن أصبحت تلك التوقعات المبنية على تحليل في حينها واقعا و هاهي البلاد قد قٌسٌّمت بسلطة السلاح وفعل الأمر الواقع و بعد قليل قد نسمع بأن هنالك رسوم عبور وجمارك ما بين الأبيض و الطريق الغربي نحو دارفور، حاليا توجد هذه الرسوم فى شكل إتاوات غير رسمية في كل أنحاء ابللاد و ليس من المستبعد أن تصبح أمرا واقعا و تحول البلاد الى مجرد كارتيلات يسيطر عليها لوردات حرب كانوا يوما قادة او جنود في قوات الدعم السريع أو القوات المسلحة، فماذا يمنع أي شخص من ان يقوم بما قام به محمد حمدان دقلو من تكوين مليشيا اصبحت لاحقا جيشا نظاميا برعاية الدولة و الأقليم، فليس للرجل أي مواهب فذة أو قدرات خارقة سوي احتراف العنف، وبذلك تكون البلاد كلها تحت رحمة كل من يحمل السلاح و برفقته عشرة جنود كلهن يعتاشون على السرقة و النهب و السبي. إنها الحالة الكاملة لغياب اي سلطة للقانون و أي ملمح من ملامح الدولة، بل حتى الأعراف الاجتماعية التى هي بمثابة اللبنة الأولي لأي عقد اجتماعي فطرى لم يعد لها معنى فى ظل حالة الخواء الثقافى والمعرفى وانتشار الخوف و العنف و سلطة السلاح.
فى تقديري أن المجتمع المدني السوداني من الضعف بما كان أن يكون له تأثير كبير على الأطراف (وليس الطرفين) في احتواء هذا التوسع أو التعاطي مع شكل التٌخلّقات التي بدأت تأخذ سياقاتها الخاصة، هذا مع العلم أن المجتمع المدنى السوداني منقسم بسبب هذه الحروب والتعويل على القيادات الأهلية والطرق الصوفية هو مجرد أمل زائف، فكما قال آينشتاين لا يمكن للعقل الذي أنتج الكوارث أن يكون جزءا من الحل، العقل السياسي الذي أنتج واقع ما قبل الحرب ساهمت فيه كل هذه المكونات الاجتماعية من قوى سياسية و ادارات اهلية و طرق صوفية و ليس من المنطقي أن نتوقع شيء مغاير من هذه القوى ما ما لم تغير من طريقة تعاطيها مع هذا الواقع المأزوم. و لا أعتقد أن المبادرات المحلية المتمثلة في وساطة الإيقاد المدعومة من الاتحاد الأفريقي فى شكلها الحالى مقرونة مع ما يدور في جدة يمكن أن تؤدي إلى وقف إطلاق نار دائم ووقف كامل للعدائيات، و رغم أني أتمنى أن أكون على خطأ أري أنه لابد من المحافظة على منبر جدة واستمرار انخراط ممثلى القوات المسلحة وقوات الدعم السريع فى التفاوض مع الأخذ فى الاعتبار أن هؤلاء ليسوا بالضرورة يمثلون كافة الأطراف التي تتقاتل الآن، مثلا صراعات القبائل العربية في دارفور ( بني هلبة و سلامات و معاليا و رزيقات) ستأخذ منعطفات مغايرة اضافة الى كتائب الإسلاميين القديمة و الجديدة من المستنفرين قد لا تأتمر بأمر من يفاوضون في جدة. أهمية جدة تكمن في التعامل مع الصراع من منظور الاحتواء الجزئي الذي إذا نجح يمكن أن يقود الى وقف كامل و شامل لإطلاق النار و هذا قد يتطلب إشراك مجموعات أخرى على الأرض من اللوردات الجدد. باختصار فرص نجاح هذه المبادرة تبدو في تضاؤل باتخاذ الصراع طبيعة بنيوية جديدة، هذا بالإضافة إلى أن أطماع الدعم السريع التى قد تزداد بالتوسع شرقا إذا ما دانت له السيطرة الكاملة على كل دارفور و كردفان، أو على الأقل التفاوض على أساس سلطة موازية على الأرض وهذا يعني المطالبة بمعادل سياسي لهذه السيطرة العسكرية، و بالطبع هذا سيعقد من فرص الوصول إلى أي معالجة مستدامة فى القريب العاجل. كل هذا يجعلنا نبدأ في التفكير ثم ماذا بعد الإيقاد و منبر جدة رغم أهميتهما؟
أظن ايضا أن طبيعة الصراع فى السودان اصبحت (أو فى طريقها) تستدعي تدخل دولي بصلاحيات البند السابع الذي يعطي مجلس الأمن الدولي الحق في تشكيل قوات لها صلاحيات التدخل العسكري لحماية المدنيين. و بالأخذ فى الاعتبار تعدد مراكز القيادة و فقدان السيطرة و تخلّق صراعات جديدة تصبح فرضية التعامل مع الحرب على أساس ثنائي جيش مقابل دعم سريع أمر فى أحسن الأحوال يمكن أن ينتج حلول مؤقتة قد لا تجلب سلاما دائما، و مع أن الواقع على الأرض قد يتطلب التفكير في سبل حماية المدنيين بما في ذلك التدخل الدولي إلا أن فكرة تفويض قوة من قبل مجلس الأمن الدولي في هذه اللحظة التاريخية أمر عسير للغاية و ربما غير قابل للتحقق. و فى لحظة كتابة هذا المقال يقوم سدنة بقايا نظام الانقاذ بمحاولة التخلص من بعثة اليونتامز التي أتت بطلب من حكومة الفترة الانتقالية برئاسة الدكتور عبد الله حمدوك و للبعثة مهمة أساسية تتمثل بشكل عام في دعم الانتقال المدنى الديمقراطى. القوى الديمقراطية في السودان يجب أن تعى أن ذهاب اليونتامز يعني خسارة كبيرة لواحدة من أهم الأدوات الدولية التي يمكن أن تساهم فى تشكيل رافعة لعملية الانتقال وإعادة تأسيس الدولة، و المخيف في الأمر أن روسيا والصين قد لا يدعما حتى استمرار عمل بعثة اليونتامز بالمهمة الحالية ناهيك عن صلاحيات أوسع، أوليس هذا كفيل بتوضيح مدى صعوبة الحصول على قرار تحت البند السابع إذا كان من الصعب حتى الحصول على تجديد لبعثة صغيرة و بميزانية صغيرة لكن بمهمة كبيرة؟
خلاصة القول، التقاطعات الاقليمية و الدولية لا تبدو أنها فى صالح الشعوب السودانية الصابرة الصامدة التي تعانى كافة أشكال العذاب من قتل و سحل و تشريد و اغتصاب و ترويع و فقر و جوع و مرض. إزاء هذا الواقع المعقد يصبح التفكير الصحيح الوحيد هو تقوية القوى المدنية و تمتين صفوفها و تركيز جهودها فى رفض سرديات الحرب و اكسابها مشروعية اجتماعية عبر الحشد الاثنى و الجهوي و هذا يتطلب وقف الحرب الكلامية غير المجدية بين القوى المدنية و التفكير فى فعل إيجابي من شاكلة التنادي إلى توسيع قاعدة التيار المدنى المناهض للحرب و تقوية صوته الاعلامى للمطالبة باغاثة السودانيين فى ظل تنافس دولي على الاهتمام والموارد، و مخاطبة مجلس الأمن عبر المذكرات و التظاهرات السلمية للمطالبة بالتجديد لبعثة الأمم المتحدة و توسيع مهمتها لتشمل حماية المدنيين إذا فشلت المساعي الاقليمية الحالية لوقف الحرب. ولعمري لا يمكن إنجاز هذه المهام فى ظل مجتمع مدنى منقسم على نفسه و يأكل بعضه البعض بحجج خطاب سياسي و عقل سياسي عفا عليها الزمن، فواقع ما بعد الخامس عشر من أبريل ينبئ بأنه لم يعد هنالك شيء اسمه السودان كما الذي في مخيلتنا و ما تبقى منه هو فقط محض ذاكرة، فهلا تركنا النواح والعويل و الانكسار و محاربة بعضنا البعض و انصرفنا الى ما يمكن أن ينفع بلدنا وشعبنا فى ظل هذا التعقيد الدولى الجم، و ان فشلنا فلنا شرف المحاولة بدلا من المواصلة في لعن الظلام.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.