إسرائيل وحرب غزة وتحولات البيئة الإقليمية والعالمية
كتب: د. عمرو حمزاوي
.
ليست حرب غزة كحروب إسرائيل السابقة على القطاع ولا كجولات المواجهات العسكرية السابقة بينها وبين حماس وحركات المقاومة الأخرى. فالحرب الحالية تترجم على الأرض حقائق غابت عن أذهان كثيرين خلال السنوات الماضية كما أنها ترتب للشعبين الإسرائيلي والفلسطيني وللمحيط الإقليمي والعالمي مجموعة من النتائج الدراماتيكية التي حتما ستغير وجه الشرق الأوسط. في الأسطر التالية، أتناول بعض الحقائق التي تترجمها الحرب عن إسرائيل وبعض النتائج التي ترتبها.
من جهة أولى، تثبت حرب غزة أن الجنون الإيديولوجي لليمين الإسرائيلي المتطرف، وهو يمين يضم أحزاب المستوطنين وأحزابا دينية وبعض المجموعات داخل حزب الليكود وأحزابا علمانية أخرى، اختطف سياسة الدولة العبرية تجاه الفلسطينيين على نحو يلغي بالكامل، إن استمر الاختطاف هذا، كافة مقومات صناعة السلام بين الشعبين واستقرارهما إن في بلدين مسالمين متجاورين أو في بلد واحد بمجموعتين عرقيتين متمايزتين أو بصياغات مؤسسية مغايرة. لم يكن السطو الأخطر لليمين المتطرف هو ما أرادت حكومة نتنياهو فعله قبل الحرب من الإجهاز على استقلال السلطة القضائية وفتح الأبواب التشريعية والتنفيذية أمام إضفاء المزيد من الطابع الديني على نظم التربية والتعليم والقوانين. بل كان الأخطر هو دفع المجتمع والسياسة في إسرائيل إلى التعامل مع الفلسطينيين كسكان مناطق ينبغي ألا تترك لهم والأفضل أن يطردوا منها، ومن ثم جاء التوسع غير المسبوق في النشاط الاستيطاني في القدس الشرقية والضفة الغربية المحتلتين وممارسات الفصل العنصري الصريحة التي ترجمت تجريد الفلسطينيين من الحقوق الأساسية ومن ثم تبلورت سريعا بعد ٧ أكتوبر خطط التهجير القسري لأهل غزة وتعالت أصداء تصريحات عنصرية إجرامية رددها ساسة اليمين المتطرف.
واليوم، يترجم اختطاف اليمين المتطرف لتعامل المجتمع والسياسة في إسرائيل مع الشعب الفلسطيني إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وملامح لجرائم التطهير العرقي والإبادة الجماعية التي ترتكبها آلة القتل الإسرائيلية في قطاع غزة على مشهد ومسمع من مواطنات ومواطنين الدولة العبرية الذين لا يعارضون الفتك الجماعي بالفلسطينيين ويرونه مبررا ويعتبرون المشاهد المروعة لقتل الأطفال وتدمير المستشفيات والمدارس سياسة مسؤولة. الكثير من هؤلاء هم نفس الجموع التي خرجت إلى شوارع وميادين المدن الإسرائيلية لمعارضة اختطاف اليمين المتطرف لنظمهم الديمقراطية وإلغاء استقلال القضاء وطالبت بالحد من نفوذ الأحزاب الدينية في السياسة. هم، بكل تأكيد، واقعون تحت تأثير الصدمة الجماعية لهجمات حماس ولقتل مدنييهم وللرهائن المحتجزين في غزة. هم، أي دعاة الديمقراطية في إسرائيل الذين يساندون اليوم القتل الجماعي في غزة ولا ينتقدون نتنياهو وحكومته إلا فيما خص الإخفاق الأمني في منع هجمات حماس، يعتبرون ما حدث بمثابة «هولوكوست اليوم الواحد» الذي لم يتحسب له أحد. غير أن البون شاسع بين تأثير الصدمة الجماعية وما سببته من غياب الإحساس الجماعي بالأمان ومن ثم الوقوع في أسر مثل هذه المبالغة غير الواقعية بالمماثلة بين الهولوكوست وبين هجمات حماس، وبين الاندفاع وبنزوع انتقامي صريح للتبرير الأخلاقي والسياسي لقتل الفلسطينيين والتورط في كل ما يحدث في غزة منذ ما يقرب من شهر ونصف وقطعا يستدعي التحقيق الجنائي الدولي في شبهات جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
لا تفسير لذلك التبرير الصادم للفتك والقتل والجرائم سوى بالإحالة إلى اختطاف اليمين المتطرف لتعامل المجتمع والسياسة في إسرائيل مع الشعب الفلسطيني والتواطؤ الجماعي الذي تبلور في اتجاه اعتبار الاحتلال والاستيطان والفصل العنصري والتهجير والحصار ممارسات مقبولة وقابلة للتطبيق والتمييز الكامل بين الموقف العام المؤيد لها وبين التنازع داخل الدولة العبرية على ملفات مستقبل الديمقراطية وسيادة القانون واستقلال القضاء. فنظام ديمقراطي يعتاش على الاحتلال والاستيطان والفصل العنصري ولا تعتبر قواه الحية، أو على الأقل بعضها، المطالبة بإنهاء استعباد الشعب الفلسطيني مقوما من مقومات الانتصار للقيم الديمقراطية، هو نظام ديمقراطي مشوه ليس له أن ينتج غير ما نتابعه اليوم من دماء ودمار في غزة ومن عنف في الضفة والقدس ومن صمت مطبق على إسرائيل التي لا صوت بها يعلو فوق صوت القتل والانتقام مخلوطا بصوت المطالبات المستمرة بإعادة الرهائن.
ستنهي إسرائيل الحرب برأي عام إقليمي عاد إليه الوعي بالقضية الفلسطينية ويريد انتزاع تقرير المصير لشعب ظلم تاريخيا ويرفض التطبيع دون سلام وإنهاء للاحتلال، وبرأي عام عالمي يدين جرائم إسرائيل ويدين انحياز الحكومات ووسائل الإعلام التقليدية الغربية لروايتها
لا أحد يتحدث عن آلاف القتلى والمصابين والمفقودين من الفلسطينيين في غزة وعن الضحايا اليوميين لعنف المستوطنين في الضفة والقدس. فعنهم جميعا نزعت الإنسانية وأعلن عن القبول الجماعي لقتلهم ولجرائم الحرب المرتكبة ضدهم كترجمة منطقية للقبول الجماعي الأسبق لاستمرار الاحتلال والاستيطان والفصل العنصري الذي أنتجه سطو اليمين المتطرف على إسرائيل مثلما أنتجته ديمقراطيتها المشوهة. لا أمل، إذا، في سلام يتحقق بين الشعبين وفي حروب ودماء ودمار تختفي عن هذه البقعة من الأرض سوى بتراجع سطوة اليمين المتطرف على إسرائيل وبنهوض القوى الديمقراطية هناك بمسؤوليتها في إنجاز الربط العضوي الضروري بين مقاومة أجندة اليمين المتطرف الداخلية بتهديداتها المباشرة لسيادة القانون واستقلال القضاء وبين مقاومة أجندته تجاه فلسطين المستندة إلى استمرار الاحتلال والاستيطان ومن ثم مواجهة التشوهات الكثيرة والخطيرة في النظام الديمقراطي الإسرائيلي.
من جهة ثانية، وإن كانت حرب غزة تظهر لإسرائيل أن جذوة المقاومة الفلسطينية للاحتلال والاستيطان لم تخفت لا في غزة ولا في الضفة والقدس، فإنها تواجهها وفيما يتجاوز الأراضي المحتلة بعودة إقليمية وعالمية شاملة للوعي بعدالة القضية الفلسطينية وبتفاصيل الظلم التاريخي الذي طال شعبا قتل وهجر وحوصر ولم يتخاذل يوما عن المطالبة بحقه في تقرير المصير وفي الاستقلال.
قبل غزة، كانت حكومات إسرائيل تعتبر أن الوعي «بالمسألة الفلسطينية» قد تراجع إقليميا وعالميا إلى حد بعيد على نحو يسمح بمواصلة الاحتلال والتوسع في الاستيطان وممارسات الفصل العنصري دون قيود، وإلى الحد الذي يسمح أيضا بالانفتاح على فرص عديدة للاندماج الإقليمي في الشرق الأوسط عبر اتفاقات تطبيع ثنائية مع دول عربية تتنصل من مبادئ مبادرة السلام العربية المعلنة في 2002 والتي ربطت بين التطبيع مع الدولة العبرية وبين السلام على أساس الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة في 1967 وعلى أساس حل الدولتين بما يعني تقرير المصير الفلسطيني في دولة مستقلة.
غير أن غزة جاءت بما لا تشتهي حكومات إسرائيل، حيث أعادت قضية فلسطين إلى الواجهة وأججت المشاعر المتعاطفة مع شعبها المضطهد. المشاهد المروعة للقتلى من الأطفال وعموم المدنيين ومشاهد الأسر الفلسطينية المهجرة من شماله ووسطه إلى جنوبه ومشاهد الدماء والدمار، هذه المشاهد التي تناقلتها وتتناقلها شبكات التواصل الاجتماعي تصيغ وعيا جديدا بمأساة الظلم التاريخي لفلسطين، وتفضح الانحياز الأعمى للحكومات الغربية لسياسات الاحتلال واستعدادها للصمت على آلاف القتلى الفلسطينيين لإرضاء الدولة العبرية، وتكشف عن تهافت وسائل الإعلام التقليدية في الغرب التي تتماهى مع الرواية الإسرائيلية وتنزع الإنسانية عن شعب بأكمله تستباح كافة حقوقه.
وإن كان التماهي مع الرواية الإسرائيلية في الأعقاب المباشرة لهجمات حماس وللضحايا بين المدنيين الإسرائيليين ولمسألة الرهائن المختطفين في غزة مفهوما غربيا مثلما كان مفهوما الإدانة الإقليمية والعربية لقتل المدنيين، فإن فتك آلة القتل الإسرائيلية جعل من هذا التماهي الغربي، الحكومي والإعلامي، أمرا غير مبرر وصنو انحياز للقاتل وتواطؤ ضد القتيل-الضحية وحول المناخ العام إقليميا وعربيا إلى سخط كامل على إسرائيل وإدانة شاملة إنسانيا وسياسيا لكل جرائمها ومطالبات واسعة بحماية الشعب الفلسطيني وإقرار حقوقه.
ولم يكن رد الفعل الإقليمي والعالمي هذا وانتشاره بين قطاعات واسعة من الشعوب غير تحول لم تتحسب له إسرائيل وحتما تتخوف منه على وقع تبلور وعي عام بجرائمها وبحق الفلسطينيين، خاصة بين الأجيال الشابة المتواجدة بكثافة على شبكات التواصل الاجتماعي والمنتجة لضغوط حقيقية على حكوماتها على نحو دفع بلد عربي بعيد تاريخيا عن الصراع وله علاقات دبلوماسية مع إسرائيل هو البحرين إلى سحب سفيره من تل أبيب، ودفع الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى التصويت بأغلبية كاسحة على المطالبة بوقف إطلاق النار وحماية الشعب الفلسطيني. وفي نفس السياق، تأتي الضغوط الشعبية المتصاعدة على الحكومات الغربية المنحازة إلى إسرائيل والتي تترجم مظاهرات متتالية تطالب بوقف إطلاق النار وإنهاء الحرب ومن ثم وضع حد للاحتلال والاستيطان والفصل العنصري والحصار.
بدأت إسرائيل الحرب برأي عام إقليمي وعالمي منصرف عن فلسطين ولا يعنيه قيام أو استمرار غياب الدولة الفلسطينية مثلما لا يهتم بتطور أو تراجع الاندماج الإقليمي بين الدولة العبرية والبعض في الجوار العربي. وستنهي إسرائيل الحرب برأي عام إقليمي عاد إليه الوعي بالقضية الفلسطينية ويريد انتزاع تقرير المصير لشعب ظلم تاريخيا ويرفض التطبيع دون سلام وإنهاء للاحتلال، وبرأي عام عالمي يدين جرائم إسرائيل ويدين انحياز الحكومات ووسائل الإعلام التقليدية الغربية لروايتها.