الذكري الـ 139 لتحرير الخرطوم: أسباب وعوامل نجاح الثورة المهدية (1881- 1885م) (1 /2)

0 126
.

في 26  /يناير /1885م تم تتويج انتصار الثورة المهدية وانتزاع استقلال السودان من قبضة الاستعمار التركي الذي جثم علي صدر شعبنا 64 عاما سام فيها شعب السودان سوء العذاب.  ونعيد وبهذه المناسبة نعيد نشر هذه الدراسة وبعد  مرور 139 عاما علي تجربة انتصار الثورة المهدية الأسباب والعوامل التي أدت لي نجاح الثورة المهدية، فماهي تلك الأسباب والعوامل؟.

أولا : أسباب الثورة المهدية:-

أشار المؤرخون مثل: نعوم شقير إلى أسبابها التي تتلخص في : الظلم والعنف،والضرائب الباهظة،  ومنع تجارة الرقيق، والمحاباة وانتشار عقيدة المهدي المنتظر. .

 كما حدد عوامل نجاحها في استخفاف الحكومة في بادئ الأمر بحركة المهدي، والانشغال بثورة عرابي في مصر، وضعف الحاميات العسكرية لحظة وقوع الثورة ، وضعف التسليح والتحصين وتعود الجنود على الترف والراحة وتردد الحكومة إذ أنها لم تتخذ سياسة نافذة لإخماد الثورة ( شقير 1981). ) .

  ويقول د . مكي شبيكة:  “وهنا يجدر بي أن ألاحظ ما كتبه المؤرخون في الأسباب التي أدت إلى الثورة المهدية ويجمعون على أن الأسباب الرئيسية هي فداحة الضرائب وتفشي الرشوة والعنت والظلم والمناداة بإبطال الرق، وقد تكون هذه الأسباب أو كلها مجتمعة السبب في انضمام البعض إلى راية المهدي، وقد يكون المهدي استعان بالبارزين ممن كانوا فريسة لواحد أو اكثر من تلك الأسباب لكن الناحية التي يهملونها والتي في نظري المحرك الأول للثورة هي المعتقد الديني وشخصية الأمام المهدي “.( شبيكة : السودان والثورة المهدية :1978 ،63).

إذن المحرك الأول للثورة المهدية في نظر شبيكة كان المعتقد الديني وشخصية المهدي .

ويضيف إبراهيم فوزي إلى ما سبق التدهور الخلقي ويورد مثالا لذلك القصة التي تذهب إلى أن رجلا قد زف إلى رجل في مدينة الأبيض ، وكيف أن المهدي قد ثار عندما وقف على هذا الحادث ( إبراهيم فوزي : 1319ه ،ص73 – 74 ). ) .

ويذكر ثيوبولد ( إن أسبابها تعود إلي اتساع الفتوحات بحيث صارت أكثر من الطاقة الإدارية المتيسرة وإلى طاقة اختيار الموظفين ونظرة هؤلاء إلى الخدمة في السودان وتكالب الدولة على استغلال موارد البلاد). (Theobold: P . 29)

ويذكر محمد فؤاد شكري: أن أسباب الثورة تعود إلى إلغاء تجارة الرقيق بالقوة ومكافحة الرق والنخاسة ثم ضعف الحكومة المركزية ( محمد فؤاد شكري:1958،ص 271).

ويرجع الشاطر بصيلي بها إلى الضغط الأجنبي في مصر والسودان لإلغاء الرق ومباشرة الأجانب للحكم في السودان وتنكيلهم بالاهلين ( الشاطر بصيلي : 1955 ، ص 164 وما بعدها).

ويرى د . أبو سليم: ( والقضية كما نراها هي أن النقاط التي أثارها الباحثون تصف في جملتها الظروف التي تستدعي قيام ثورة أو خلق احتجاج عام ولكنها تقف دون إبراز الظروف الذاتية والملابسات التي جعلت محمد أحمد دون غيره من الناس ممثلا لهذا الاحتجاج وقائدا للثورة على الأوضاع ، وبمعني أخر فإننا محتاجون إلى مزيد من الحقائق والبيانات عن حياة محمد أحمد الأولى ومدى ارتباطه بالحياة العامة وإلى إبراز العوامل التي دفعت به من الحياة السلبية التي يمارسها المريد الصوفي إلى الحياة الإيجابية الهادفة إلى بناء مجتمع جديد ( د . أبو سليم:1970 ،ص 12)

ويتابع د . أبو سليم متابعة دقيقة وجيدة للحقائق والبيانات عن حياة محمد احمد المهدي وتطور شخصيته والتكتيكات السليمة التي اتبعها حتى أعلن الثورة وقادها بنجاح إلى الانتصار . إذن د . أبو سليم يركز على إبراز الظروف الذاتية التي تمثلت في قيادة شخصية محمد احمد للثورة إلى جانب الظروف الموضوعية التي تستدعى قيام ثورة أو خلق احتجاج عام. .

وينتقد هولت تناول شقير ومن بعده للأسباب التي تتلخص في الظلم والقهر وسوء الإدارة ظل لصيقا بالإدارة المصرية واحتمله السودانيون لمدة الستين عاما فلماذا اندلعت الثورة في عام 1881 م ؟ . ولماذا لم تندلع في وقت أسبق ؟ لماذا ضاق السودانيون ذرعا بذلك النظام في ذلك الوقت بالذات ؟  ) Holt ; 1963 , P . 67)

ويصف هولت الأسباب التي ساقها المؤرخون منذ عهد نعوم شقير بأنها عوامل للسخط والتبرم لا تكفي لقيام الثورة في الوقت الذي قامت فيه ( ( Holt : 1958 , P . 25) ، كما يحدد عناصر للنجاح الثورة تتلخص في:

1 – يواكب الشعور بالسخط العام ضعف مادي أو معنوي في النظام القائم يجعل من العسير قمع الثورة إبان نشوبها.

2 –. وجود جيش ثوري على استعداد لاستعمال العنف في سبيل هدفه

3 – .وجود القيادة الثورية التي تطرح البديل للنظام القائم

ويقدم عبد الله على إبراهيم أمثلة لانتفاضات قامت نتيجة السخط مثل انتفاضة المك نمر التى أودت بحياة إسماعيل باشا وتمرد الشيخ البدوي في سنة 1895 وتمرد سليمان الزبير باشا في سنة 1878 ، وعصيان الفقيه إدريس وجماعة من أنصاره في سنة 1878 على النيل الأزرق ومقتله في قرية القراصة.

ومن هذا السرد يبرهن عبد الله على ابراهيم نظرية هولت ويقول ( هذه الانتفاضات المتباينة تشير إلى أن السخط وحده ليس هو الشرط الوحيد للثورة الشاملة ، ولكن بتوفر هذا السخط مع ضعف الكيان الإداري للنظام القائم مع القيادة الملهمة يبدا اندلاع الثورة . ( عبد الله على إبراهيم:1968،ص16- 17).)

كما يسرد تحلل وضعف إدارة الحكم التركي وتطور شخصية المهدي وتفاعلها مع الواقع القائم على الظلم والفساد ليصل إلى دور العامل الذاتي بجانب العامل الموضوعي ويقول ( إذا فالمهدي حين نضج السخط وساد التفكك والضعف في الجهاز الإداري – كان يهب القيادة الثورية التي ذكرها هولت ( نفسه ::ص21). )  . فعبد الله على إبراهيم هنا يوافق ويقدم الحجج التي تبرهن على نظرية هولت ..

ويصف د . محمد سعيد القدال منهج هولت في تناول أسباب الثورة المهدية بأنه منهج شمولي ويقول ( ولكن يبقي هذا المنهج الشمولي الذي يسعى هولت لإضفائه على تناوله لاسباب الثورة المهدية عاملا مساعدا في الوقوف على أسباب تلك الثورة ومراميها ( د . قدال ::1986 ، ص44-45).

ويستند قدال على منهج هولت الشمولي ويعمل على تطويره وتعميقه في مناقشة أسباب الثورة المهدية ويقدم ثلاثة ملاحظات منهجية ويحدد مصادره المنهجية في نصوص لماركس وانجلز ( الأيديولوجية الألمانية ) وبليخانوف ( تطور النظرة ألواحدية للتاريخ ) ، يوغوسلافسكي وآخرين ( في المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية ) ولينين وابن خلدون وحسين مروه .. وتتلخص ملاحظاته المنهجية والذي يرى من المهم حضورها لتصور يفسر لنا اندلاع الثورة المهدية في:

1 – مع وجود نظرية علمية محددة لحركة المجتمع ، فإن عملية التغيير الاجتماعي لاتتم بصورة ميكانيكية مبسطة وسيكولوجية المجتمع تكيف نفسها وذاتها مع أوضاعها الاقتصادية ، ولكن ذلك التكيف عملية معقدة يجعل من الضروري التمييز بين الظروف الاجتماعية لعصر معين وبين ظروف أفكاره.

2 – أفكار كل عصر لها ارتباط سواء كان سلبا أو إيجابا بأيديولوجية العصر السابق عليه، ولهذا فإننا نحتاج عند تحليل الظواهر الاجتماعية كالثورات، أن نراعي التناسب بين الموضوعي والذاتي ، بين الظروف والإنسان ، بين المقدمات والإرادة البشرية ، بين الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي في أخر المطاف.

3 – الثورات تفرز أفكارا ذات طابع شمولي ، وكل طبقة جديدة تسعي لاحتلال مكان طبقة سائدة قبلها مضطرة ولو بمجرد تحقيق أهدافها إلى تمثيل مصالحها على أنها المصلحة المشتركة لجميع أفراد المجتمع ، وبالتالي فهي تتصور أن انتصارها سيعود بالمنفعة أيضا على أفراد كثيرين من الطبقات التي لم تتوصل بعد للسيطرة (نفسه :45-47).

استنادا إلى النقاط المنهجية أعلاه يواصل قدال المناقشة، ويمكن تلخيص مناقشته في الأتي : – أ – الظلم وحده لا يكفي لاندلاع ثورة ، والا أضحت عملية التغيير في المجتمع آلية بحتة .. ب – الوعي بالظلم تبلور في إطار مجتمع سوداني له خصوصيته التي تمثلت في تراثه الإسلامي الصوفي وفي شخصية المهدي وفي تقاليده القبلية ، فعندما نتناول الأفكار التي عبر عنها المهدي أو دوره القيادي ، فلأنهما يعبران عن مرحلة متقدمة من تبلور الوعي الاجتماعي بالظلم ، وليس لأنهما سبب الثورة . كما أننا لا ننظر لهذا السبب أو المظهر كل على حدة ، لأن ذلك التناول الأحادي لا يساعد علي الرؤية المتكاملة للتغيير الاجتماعي.

ج – لايرى قدال أن البرنامج السياسي الذي طرحه المهدي كان رفضا مطلقا للحكم التركي بدليل أنه أبقي على الحكم المركزي وأضاف إليه ثقلا مركزيا جديدا هو شخصية المهدي الدينية والخليفة من بعده ، كما لم يكن ضد البنية الاقتصادية الجديدة المتمثلة في نمو السوق والتبادل النقدي بدليل أن المهدية سعت إلى تطويرها، والعجز عن تطويرها راجع لسوء التطبيق ومواجهة الضغط الاستعماري،ولأن القوي الاجتماعية التي حملت على عاتقها مسئولية التغيير وبناء الدولة بعد نجاح الثورة كانت ضعيفة التكوين الاجتماعي.

 لذا عندما كانت المهدية تعبر عن رفض للحكم التركي – المصري، كانت أفكارها وبرنامجها وممارستها واضحة ومحددة، أما عندما تصدت لمهمة البناء الاجتماعي أضحت تعبر عن مصالح محددة . كما كانت تلك المرحلة محفوفة بمخاطر العدوان الخارجي، فاندفعت الدولة المهدية نحو سياسة حربية مدمرة ، هي في جوهرها تعبر عن الواقع الموضوعي المحدود للفئات الاجتماعية التي أضحت سيدة الموقف في النظام  وهم : أولاد العرب الذين تمركزوا في جهاز الدولة وفي نقاطها الحساسة ( يستعمل تعبير أولاد العرب ليعني قبائل غرب السودان تمييزا لهم عن أولاد البلد وهم القبائل التي تسكن أواسط السودان : راجع محمد سيد داؤد : الصراع بين أولاد البلد وأولاد العرب 🙁 قدال:48).

د – الصورة التي عبر بها الوعي الاجتماعي عن نفسه كانت فكرة المهدي المنتظر، ويشير إلى ذكر ابن خلدون لدور الدين في انتفاضات العالم الإسلامي عندما ذكر أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة ( ابن خلدون : ص 151 – 153 ) . كما يشير د . قدال إلى تصور انجلز المتكامل لاسباب انتفاضات العالم الإسلامي وأساسها الإسلامي ويري انه تطوير لرأى ابن خلدون.

 كما يناقش د . قدال فكرة المهدي المنتظر : أصلها وتطورها كما هو معروف . وحاصل قول د . قدال ( إن دراسة أسباب الثورة المهدية خارج إطار الواقع الاقتصادي لا يساعد في فهم المحرك الحقيقي لها، إذ أن الواقع الاقتصادي يتحكم لحد كبير في مجري الأحداث ، فالبعد الاجتماعي للثورة المهدية لا يستبين مداه خارج إطار التشكيلة الاقتصادية السائدة ) ( د . قدال : ص 51 ) . ويواصل د قدال ويقول : والحركة المهدية كما لاحظ أحد الباحثين اهتمت في بداية أمرها بالجانب الديني وأهملت الجانب الدنيوي ، ولكن بعد استقرارها في أم درمان وتحولها إلى دولة ، لم يعد للعامل الديني نفسه الحماسة والتأثير).

إذن قدال يرى أن دراسة أسباب الثورة المهدية خارج إطار الواقع الاقتصادي لا يساعد في فهم المحرك الحقيقي لها. .

ويمكن تلخيص ما أورده المؤرخون أعلاه حول أسباب الثورة المهدية في شقين:

 الشق الأول : محرك أو دافع اجتماعي ويتلخص في : شخصية الإمام المهدي ، والمعتقد الديني ، والتدهور الخلقي ، وعجز إداري وفشل الموظفين وتكالبهم على استغلال موارد البلاد، الضغط الأوربي على العالم الإسلامي واحتلال الأوربيين لبعض البلاد الإسلامية وقصدهم لاحتلال الباقي، وإلى ضعف الإيمان بالقرآن والتشبه بالأوربيين ووضع القوانين الوضعية بدل القوانين المنزلة ، تقلص سلطة الخديوية وتضعضع مركزها بعد طرد الخديوي اسما عيل وتمرد الجيش على ابنه توفيق واتفاق ذلك مع الفراغ الهائل الذي خلقته استقالة غردون في السودان، الظلم وسؤ الإدارة ، مكافحة تجارة الرقيق، وضعف الحكومة المركزية، ومباشرة الأجانب للحكم في السودان وتنكيلهم بالآهلين.

الشق الثاني: محرك أو دافع اقتصادي

وهذا الاتجاه يرى أن دراسة أسباب الثورة المهدية خارج إطار الواقع الاقتصادي لا يساعد في فهم المحرك الحقيقي لها، إذ أن الواقع الاقتصادي يتحكم إلى حد كبير في مجرى الأحداث ، فالبعد الاجتماعي للثورة المهدية لا يستبين مداه خارج التشكيلة الاجتماعية السائدة ، كما يشير د . قدال .

من المهم ، أن نلاحظ هنا المحاذير الآتية في تقسيمنا هذا، إننا نتحدث عن محرك أول أو محرك حقيقي أو إبراز الدافع الرئيسي، فمثلا عندما يتحدث د أبو سليم عن شخصية الإمام المهدي، لا يعني أنه يهمل الأسباب الأخرى ولكنه يقصد إبرازها، وعندما يتحدث د . شبيكة عن المعتقد الديني وشخصية المهدي كمحرك أول لايعني أنه يغفل العوامل التي أشار إليها شقير .

وعندما يتحدث د . قدال عن الدافع الاقتصادي،فإن ذلك لايعني أن قدال يقع في الفهم الميكانيكي لدور العامل الاقتصادي، ولكنه يشير بوضوح إلى أن دراسة أسباب الثورة المهدية خارج إطار الواقع الاقتصادي لا يساعد في فهم المحرك الحقيقي وهذا يختلف عن مفهوم العامل الاقتصادي كمحرك وحيد للتاريخ.

هذه المحاذير هامة يجب أن نضعها في الاعتبار ونحن نقدم هذا التلخيص.

نواصل  

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.