كتب: د. حيدر ابراهيم علي
.
“لا يمكن للعقل أن يحكم الواقع، ما لم يصبح الواقع نفسه معقولا ”
هربرت ماركوزه
يدور هذه الأيام نقاش (أو غبار إعلامي) يشوبه كثير من سوء النية والتدليس حول المجتمع المدني وعلاقته بالمانحين والمموليين الأجانب. إذ يعمد البعض الي رمي تهم العمالة بمجانية ولاأخلاقية تهدف الي التشويه واغتيال الشخصية أكثر من كشف حقيقة العلاقة. ولكن هناك من شارك في الحملة رغم أنه يعمل في منظمات إقليمية أو دولية، أو يعيش في الغرب، ويعلم جيدا حقيقة العلاقة. فقد دار لغط مغرض بعد نشر التقرير السنوي “للوقفية الوطنية للديمقراطية” أو (National Endowment for Democracy – NED)
ورغم أن التقرير ينشر كل عام ولكن هذه المرة جاء بعد قصيرة من الإنتفاضة الشبابية والطلابية المجهضة. لذلك، فالتوقيت ليس صدفة، إذ يجيء مباشرة عقب هبة شعبية معارضة قوية حركت ركود الشارع، وابتدرتها منظمات المجتمع المدني وليس الأحزاب السياسية. وهذا ما أزعج النظام، والمتواطئين والأزلام، وبعضا من المغفلين النافعين. ويبدو أن النظام أعجب بخطة الرئيس الروسي (بوتين) الذي اشترط علي منظمات المجتمع المدني بأن تثبت صفة أنها عميلة لدولة أجنبية عند التسجيل. ومن الجدير بالذكر أن أمريكا في فترة المكارثية، اشترطت علي أعضاء الحزب الشيوعي الأمريكي أن يسجلوا أنفسهم كعملاء لدولة أجنبية حين يريدون الإنضمام للحزب.
ويقع كثير من اللوم علي ناشطي منظمات المجتمع المدني بسبب تقاعسهم في توضيح حقيقة العلاقة وقبول الإدانة ضمنيا – بالسكوت والعجز عن الدفاع عن وضعيته مما يجعل التهم والشكوك تبدو وكأنها حقائق وواقع. ويعود ذلك إلي عدة أسباب منها، أن الكثيرين يجهلون فلسفة المجتمع المدني وأأكتفوا بالتقاط ثمارها وهؤلاء لا يتعبون أنفسهم في الفهم والتنظير للمجتمع المدني واكتفوا بعقد الورش، واكتفوا بدور السباكين. هناك مجموعة أخري جاءت للمجتمع المدني بقصد الارتزاق فعلا دون أن يكونوا عملاء لأحد لأنه لا توجد في المجتمع المدني عمالة، ولكن قد يوجد فساد كما الحال في أي تجمع بشري تدور فيه أموال.
1. مجتمع مدني عالمي
رغم أن ظاهرة المجتمع المدني قديمة في أوربا وارتبطت بصعود الطبقة البورجوازية التي قضت علي النظام الإقطاعي. فالظاهرة بالتالي وليدة ظهور الدولة الوطنية واقتصاد السوق، وكانت وظيفة المجتمع المدني التقليل من تسلط الدولة. واعتبر المجتمع المدني نسقا إجتماعيا يقع في الوسط بين الدولة والعائلة أي بين علاقة موضوعية ولا شخصية تماما ، وأخري شخصية وذاتية. وبتطور النقابات والاتحادات المهنية والمنظمات التطوعية، لم يعد الفرد/المواطن تحت رحمة الدولة. كما أنه مع فصل الدين عن الدولة، صارت الكنيسة تبحث عن دور غير سياسي مباشر؛ فاتجهت نحو التبشير والعمل الخيري. وفي علاقة جدلية أي تأثير وتأثر متبادلين مع الديموقراطية، تطور المجتمع المدني بسرعة واكتسب المكانة والدور الفاعلين في الحياة العامة الغربية. هذا تاريخ مختصر للغاية لخلفية المجتمع المدني الغربي تساعد في فهم نشأة المجتمع المدني العربي غير الطبيعية والذي تم استزراعه من الخارج مثل الدولة تماما.
يفرض علينا مقام هذه الكتابة أن نتجه مباشرة الي مقال المجتمع المدني المعاصر. وبالتحديد الي معالجة نشأة المجتمع المدني العالمي أو الدولي. ويمكن القول أن البداية الحقيقية مع نهاية الحرب الباردة وبالتحديد مع سقوط حائط برلين أي بداية تسعينيات القرن الماضي. فقد تصاعدت موجات المطالبة بالديموقراطية وحقوق الإنسان بالإضافة لقضايا ذات آثار عالمية مثل البيئة، والهجرة، ، والمخدرات، والإيدز. فقد تنادت منظمات ذذات أهداف مشتركة للعمل تحت مظلات موحدة لتبادل الخبرات أو ما اصطلح عليه في المجتمع المدني بالتشبيك (Networking) أي ربط المنظمات في شبكات وتعتبر منظمة (CIVICUS) أهم وأكبر المنظمات التي تضم عددا كبيرا من منظمات العالم، وتعرّف نفسها:-“تحالف عالمي لمشاركة المواطنين، تحالف عالمي لأعضاء وشركاء يمثلون شبكة فعّالة للمنظمات علي مستويات محلية، واقليمية، ودولية، تمتد كطيف جامع للمجتمع المدني”. وتعقد مؤتمرا دوريا شاملا لترسيخ قيم التعاون والمساندة والتضامن. سيكون المؤتمر القادم في الفترة 3-7 سبتمبر2012 في مونتريال (كندا) . ويمكن للجادين في معرفة حقيقة المجتمع المدني العالمي متابعة المداولات والنقاشات من خلال موقع (CIVICUS.org)
وللوقفية الوطنية للديمقراطية – المتهمة بالتخابر كيانا عالميا يحضره الديموقراطيون من كل أنحاء العالم ومن كل الإتجاهات السياسية، هو:الحركة العالمية للديمقراطية (World Movement for Democracy) ومن كيانات المجتمع المدني العالمي (Civil Society International)
و(Grassroots International)
أما فيما يخص التمويل، فهو ليست عملية مخابراتية سرية بل أصبح علما يدرس في الجامعات وتعقد له كورسات ومؤتمرات وورش للتدريب مخصصة لموضوعات مثل:
How to write a proposal? Applying for funding or a grant
وبقصد تسهيل عملية الحصول علي المنح والتمويل، والتعريف بالمانحين؛ تصدر العديد من المنظمات دليلا إرشاديا يحدد المجالات المشتركة في الاهتمام بين المانحين والمتلقين، وكيفية التقديم، والمواعيد، والمبالغ المرصودة. وهي لا تقل في احجامها وعدد صفحاتها عن دليل الهواتف؛ ومنها علي سبيل المثال:
– Directory of International Funding
– International Donors Directory
– International Organizations Funding Directory
– Directory of Social Change
– NGOs Fund Directory
– The Funders online Directory
– Global Development Donors
– NGO Funding Agency
– Seeking Funding
– Directory of International Funding Agencies
– Global Funding Agency Directory
– Development Funding in Africa
– Fundraising Directory for nonprofit Organizations, etc
وتصدر بإنتظام كتب في نفس الموضوع من أهمها كتاب ضخم بلغ سعره $389 وهذه الطبعة 11 المعروضة الآن في الأسواق
The International Foundation Directory: Cathy Hartley (ed.)
ومن الجدير بالذكر أن أغلب هذه المؤسسات المانحة التي تبلغ عشرات الالآف هي لأسر وأفراد محسنين يوقفون أموالهم “صدقة جارية” للعمل الثقافي والفكري والخيري. وهذه بالمناسبة يفترض أن تكون من خصائل المسلمين فقد أوصي بها الدين، بينما فضل المسلمون كنز المال بكل الوسائل. ونروج في بلادنا-خجلا أو خبثا- أنها مؤسسات حكومية أو شبه حكومية، مثل مؤسسة فورد التربوية، ومؤسسة كارنيجي، وروكفلر، وايرهارد؛ وغيرها وغيرها.
2. التمويل الأجنبي بين العمالة والعمل الإنساني
لا استغرب كثيرا حين يطلق الكثيرون علي مثل هذه العلاقة الإنسانية في العمل الطوعي، ووسائل المساندة والتضامن؛ صفات العمالة والصلات المشبوهة. وذلك، لسبب بسيط وهو أن المجتمعات العربية-الإسلامية لم تعرف مثل هذا العمل الإنساني المؤسسي والممنهج، وحتي فكرة الأوقاف بين المسلمين أنفسهم ناهيك عن غير المسلمين، لم يتم تحديثها وتطويرها حتي كادت أن تنسي وتندثر. والآن نعقد المؤتمرات عن الأوقاف وننفق أموالا ووقتا وكلاما، بلا أي تطبيق أو ممارسة فعلية. أما في أوربا، فقد جاء العمل الإنساني كجزء من رؤية الأوربي للكون –طبيعة وبشرا. عاشت أوربا ثورات في كل المجالات:الإقتصادية، السياسية، العلمية، العقلية، الدينية، الفكرية، التقنية. . . الخ. ورغم اختلاف المسارات والمجالات، إلا ان الغاية واحدة: تحرير الإنسان، وإعلاء قيمته، وجعله مركز الكون بلا منازع. وهذا ماقصده الشاعر (الفيتوري) بقوله:
“والأعلي من قدر الإنسان هو الإنسان.”
عملت كل ثورات أوربا علي تحرير الإنسان من كل أشكال الخوف ، والحاجة، والتعاسة. فقد حررت الثورة البورجوازية الإنسان من قيود القنانة، والسخرة، ومنع الحركة والاختيار التي فرضها النظام الإقطاعي. ومثّل شعار:دعه يعمل، دعه يمر؛ قمة الحرية في فترة صعود البورجوازية. وكان الإصلاح الديني الذي ابتدره (مارتن لوثر) هدما لسلطة الكنيسة الكاثوليكية في احتكار المعرفة الدينية. ثم أكملت اللغات القومية القضاء علي الإحتكار، إذ لم تعد اللغة اللاتينية وحدها هي مفتاح فهم الكتاب المقدس. وتم فصل الدين عن الدولة – لاحقا، بعد تقلص الحق الإلهي المقدس في السلطة، وحين لم يسمح نابليون للبابا بأن يتوجه بوضع تاج علي رأسه-كرمز لسلطة لم تعد موجودة. وأكملت الثورة الفرنسية عام1789 القضاء علي استعباد الإنسان برفع أنبل الشعارات: الحرية، الأخاء، والمساواة. وصار الجميع يتخاطبون بكلمة:المواطن، حتي لطبقة النبلاء المنقرضة. وكانت الثورة الصناعية، والكشوف الجغرافية، وثورة العلوم والاختراعات والتكنولوجيا. كل هذا سبب ونتيجة في نفس الوقت لما أسمته أوربا:الإنسانية أو الإنسانوية (Humanism)
من هنا جاء الإهتمام بحقوق الإنسان، وحكم الشعب بالشعب ومن أجل الشعب (الديموقراطية)، والرفاهية ثم الاهتمام بالإنسان كإنسان حيثما كان. ولأن كل شيء يحمل نقيضه في داخله، فقد حملت طبقات في اوربا عار الاستعمار. ولكن قيم الإنسانوية كانت أقوي لدرجة خجل المستعمرين والذين اطلقوا علي مهمتهم المشينة:عبء الرجل الأبيض أو (White’s Man Burden).
واخيرا، أجبرت حركات التحرر الوطني المستعمر علي تصفية وجوده وتفكيك نفسه. ولأن الغرب ليس واحدا، فقد كانت هناك الطبقات الرأسمالية والعنصرية مقابل الفئات الانسانوية والاشتراكية، والتحررية، والخضر (أصدقاء البيئة) ، والحركات النسوية، ومنظمة العفو الدولية، وأطباء بلا حدود، وصحافيون بلا حدود. . . وغيرهم كثيرون.
كان نتاج الرؤية الإنسانوية للكون، أن أصبح الآخر مصدر اهتمام تمثل في الأممية، والعولمة (ناقصا الرأسمالية المستوحشة) ، الإغاثة، المساعدات ، التطوع، المنح، التمويل. . . الخ.
ولذلك، تعتبر اوربا بنت عصر التنوير، والثورة الفرنسية، وروسو، وفولتير، وماركس، وفرويد؛ أكثر تحضرا وانسانية ورحمة منّا. والدليل علي ذلك، أن الزعيم الإسلامي راشد الغنوشي، وأبو قتاية لجأوا الي بريطانيا، وغيرهم المئات هناك وفي فرنسا، والمانيا، وهولندا، والدول الاسكندنافية. وحين تحدث الكوارث الطبيعية في بلادنا تكون الطائرات الاوربية المحملة بالغذاء والدواء، أول ما تصل الينا رغم بعد المسافة. وترك الملايين من المسلمين والعرب بلادهم واقاموا في الغرب. وقد صار بعض علماء الإجتماع يتحدثون عن “الإسلام الاوربي”.
لا أريد الاستشهاد بالقائل أنه وجد إسلام بغير مسلمين في أوربا حين رأي الأخلاق والقيم التي دعا إليها الإسلام، تمشي أمامه علي الأرض ، بينما هي غائبة في بلاد المسلمين. ولهذا، لا نصدق أن الغربي أو الاوربي يمكن أن يساعد الآخر بلا مقابل في الدنيا أو الآخرة. وهناك نماذج مدهشة للعمل الإنساني والخير قام بها اوربيون ليكفروا عن خطايا الحقبة الإستعمارية ثم صارت الظاهرة جزءا مؤسسيا أصيلا من الثقافة الاوربية والغربية. وفي بالي دائما شخصية مثل (ألبرت اشفايتزر) () (1875-1965) وهو ألماني ثم فرنسي (كان يقطن اقليم الالزاس-اللورين المتنازع عليه بين الدولتين) وهو شخص متعدد المواهب والقدرات:طبيب، موسيقي (عازف اورقن) ، عالم لاهوت، وفيلسوف. هاجر إلي قرية نائية في منطقة دولة القابون الحالية، حيث بني أول مستشفي من الزنك ، في العام (1913-1918) وفي سنة1926 أسس أخرى. واستقر هناك حتي عام1948 أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، مع بعض الإنقطعات. وقد ساعدته زوجته – المتخصص في التخدير-لفترات طويلة. وكان يقوم بهذا العمل اتساقا مع فلسفته التي أسماها: “تقديس أو توقير الحياة (Reverence for Life)
وقد حصل بسببها علي جائزة نوبل في عام1952. ومن المعاصرين له البريطاني (البرت كوك) (1870-1951) وزوجته؛ فقد اهتما بالتوليد. وفي1914 و1918 افتتحا مركزين لتدريب المساعدين الطبين الأفارقة في يوغنده. واستمر التقليد الأنساني في شكل حديث وجماعي:منظمة أطباء بلا حدود. فهم يأتون من فرنسا وهولندة للعمل في دارفور، بينما قد نجد أطباء سودانيين يرفضون العمل في تلك المناطق ويسمونها:” مناطق الشدّة”. وخصص (بيل جيتس) اربعة مليار دولار لمكافحة الملاريا والإيدز في إفريقيا.
وتعترف الحكومة الاسلاموية أحيانا بالدور الغربي -وتحديدا الأمريكي- في تقديم العون. ففي لقاء مع مبعوث أمريكي، حيا مصطفي تيراب، وزير الدولة للثقافة، الشعب الأمريكي لتقديمه العون لكل شعوب العالم؛ مشيرا إلي سعي الوزارة لربط وتطوير العلاقات والتعاون بين الشعبين في مجال الثقافة. (الصحف 26/8/2012) .
3. في تاريخ المال الأجنبي
هذه الحيثيات تجعلني معجبا بالحضارة الغربية (ناقصا الرأسمالية المستوحشة) بلا حدود، ولكنني ليس منبهرا بها، لأنني قادر علي نقد السلبيات.
فهي حضارة تؤكد أن الإنسان مركز الكون، وبالتالي ليس غريبا احترامها لحقوق الإنسان، والدفاع عن كرامته. ولذلك، لا أجد أي حرج أو حساسية في التعامل بندية مع الغرب:أفرادا أو مؤسسات، في القضايا المشتركة. وقد يكون يساري ألماني أو فرنسي، أو ديمقراطي أمريكي، أقرب إليّ من سلفي سوداني أو سعودي. ومن هنا يبقي الحديث عن العمالة مرسلا بطريقة غير أخلاقية يعوزها الورع وتأنيب الضمير. وفي البلدان الراقية والديموقراطية والتي تحترم الإنسان، يمكن أن تلجأ للقضاء. فالعمالة تهمة جنائية تعادل الخيانة العظمى، ولها مواد. ولكن في السودان، يمكن لصحفي يكتب وهويلعب اصابع قدمه ويلقي بمثل هذه التهم دون أن يتحري الصدق أو المهنية.
العميل هو من يقوم سرا بتسليم معلومات عسكرية أو أمنية أو إقتصادية أو غيرها مما يضر بوضعية وطنه، لدولة أجنبية عدوة أوجارة أو صديقة، مقابل مبلغ من المال أو تسهيلات أو خدمات. هذا ما لم يقم به أي ناشط في منظمات المجتمع المدني. وفي نفس الوقت قام البعض بتسليم قوائم بأسماء الإسلامويين المتشددين والناشطين للمخابرات الأمريكية مباشرة، ولم يوصفوا بالعمالة. وهناك من قام بتسليم (كارلوس) لفرنسا ولم يعتبر عميلا. ولذلك، نعذر (الغنوشي) الذي استفاد من الجواز السوداني لثلاثة أشهر فقط (حسب قوله عندما عاتبته علي تعاونه مع النظام السوداني، خلال ندوة في الحمامات اكتوبر الماضي) وفضّل اللجؤ في بلاد النصاري.
في سياق تحديد العمالة، هناك أشكال مبتكرة للتعامل مع جهات أجنبية أو غير سودانية، تستباح فيه مقدرات الشعب السوداني وثرواته –بدون الرجوع إليه طبعا. ولنقرأ معا هذه المقابلة مع محمد عثمان محمد صالح، رئيس هيئة علماء السودان، مع صحيفة (العرب) القطرية بتاريخ 30/12/2011
محمد صبرة: سمعت عن تخصيص الحكومة السودانية لقطعة أرض لصالح اتحاد العلماء (العالمي) ما قصتها؟
– قصة تخصيص الأرض بدأت بطلب من الشيخ يوسف القرضاوي للرئيس عمر البشير بتخصيص قطعة أرض لتكون وقفا يعود ريعه لمصلحة الاتحاد.
وقد وافق الرئيس البشير على الطلب، تقديرا منه لكون الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين من أهم المؤسسات الإسلامية التي يرجع إليها الناس، ويمثل مرجعية شرعية ضرورية. ووجه الرئيس البشير أمرا للجهات المختصة بتخصيص قطعة أرض مساحتها ألفا متر بالمنطقة المركزية في وسط الخرطوم قرب مقر بنك فيصل الإسلامي وتطل على شوارع رئيسية، وانتهت إجراءات التخصيص والحمد لله أصبح لدى الاتحاد شهادة ملك الأرض.
– كم تبلغ قيمة الأرض التي تم تمليكها للاتحاد؟
– سعر المتر في هذه المنطقة يبلغ ألف دولار وإجمالي سعر الأرض يصل إلى مليوني دولار.
وهنا نستطيع أن نفهم مقولة:أن يعطي من لا يملك لمن لا يستحق. علما بأن الشيخ القرضاوي ومحمد سليم العوا، قد زارا إقليم دارفور المنكوب، ضمن وفد من الإتحاد ولم يتبرعا- لا هم ولا الإتحاد- بمليم واحد. (قارن بينهم وبين شفايتزر وقيتس وحتي اوبرا وينفري في جنوب إفريقيا) .
يمتد تاريخ التمويل الأجنبي أو استلام أموال من غير السودانيين للقيام بنشاط داخلي، إلي أربعينيات القرن الماضي. وقد كان أول المبتدرين هم (جماعة أنصار السنة ) الذين تلقوا هبات وتبرعات منتظمة ومعروفة، من المملكة العربية السعودية. ولم تكن هذه الأموال تخضع لأي رقابة ولا اجراءات تقديم طلبات تحدد نوع المشروع والميزانية وفترة الإنجاز ثم المراجعة وتقديم تقرير نهائي. وهذا ما يحدث الآن في تعامل منظمات المجتمع المدني والمانحين. فهل كان (أنصار السنة) عملاء للسعودية؟ وذلك، بغض النظر عن “نبل” الأهداف، فالموضوع هو استلام سودانيين لأموال من غير سودانيين.
لم يكن الحزب الشيوعي السوداني بعيدا عن التعامل مع جهات غير سودانية. ويبرر ذلك بطبيعة العلاقة الأممية التي تفرض التضامن والرفاقية. وقد كلفت تشيكوسلافيا-السابقة-كدولة وحزب-بالتعامل مع الشيوعيين السودانيين. ولأسباب بديهية، في ذلك الوقت، لم يكن من المعقول استلام الأموال مباشرة. وكان الدعم المالي يتم من خلال شركات تعمل في السودان مثل الكبريت أبو مفتاح وشركة للتركترات وأخري للرش في الجزيرة. ولكن الأهم من هذا كله كانت البعثات والمنح، ثم زيارات وعلاج الأعضاء والنقابيين وقادة الاتحادات، لدول المعسكر الاشتراكي. وقد تقلد الشيوعيون والديمقراطيون مناصب عليا في الاتحادات العالمية للشباب والطلاب والعمال. ولم تكن أحزاب عقائدية أخري مثل البعث الاشتراكي العربي-بجناحيه العراقي والسوري، الناصريين، القوميين، واللجان الثورية؛ بعيدة عن هذه العلاقة الداعمة ماديا ومعنويا بدعوى وحدة الأمة العربية. باختصار، كان السودان منطقة منخفضة ماديا بسبب الفقر، ولكن في نفس الوقت يعج بعناصر ذات قيمة فكرية وتنظيمية وحزبية، عالية.
تكونت ثروات الرأسمالية الإسلاموية الطفيلية أساسا من علاقاتها الخارجية مع مؤسسات وأفراد في السعودية وقطر والكويت. وتوجد بدايات مبكرة مع التنظيم العالمي للإخوان المسلمين في جنيف. فقد عمل (عثمان خالد مضوي) مع القيادي الإخواني المصري (سعيد رمضان) في مجلة (المسلمون) .
وسرعان ما تحول القاضي المفصول مطلع الستينيات-هو وزميله (علي محمود حسنين) بسبب قضية أخلاقية صد مسؤولين؛ إلي رجل أعمال واسع الثراء. ونتيجة لفصل نظام (النميري) للعديد من الإخوان المسلمين ، وقد احتضنتهم “السعودية”وفتحت لهم العديد من الفرص. ومن أهم نتاجات المال النفطي (علي عبدالله يعقوب). وهو الذي أدخل (محمد الفيصل) ببنكه الإسلامي إلي السودان. ورغم أنه ليس باقتصادي أو مصرفي بل استاذ (عربي ودين) من القاهرة: دار العلوم أو الأزهر؛ فقد تحول بدوره الي ثري نفطي كبير. ومازلت أذكره في منتصف الستينات أيام (إتحاد الشباب الوطني) في شوارع وسط الخرطوم أو في معهد المعلمين العالي؛ شخصا بسيطا ورقيق الحال مثلنا. اتمني طالما أثير موضوع المال الأجنبي (غير السوداني) أن نتابع أصول الثراء الإسلاموي وشبكة علاقاتهم الخارجية.
أخيرا، لم تبتدع منظمات المجتمع المدني علاقات التعاون مع الخارج ماليا. وهذا التمويل معلن وله إجراءات في التقديم، والمهم أنه غير مشروط. هذه شراكة يلتقي الطرفان في قضية وقد تختلف الغايات. علي سبيل المثال، قد يلتقي مركز الدراسات السودانية والوقفية الوطنية للديمقراطية في موضوع نشر الديموقراطية. وقد يكون هدف الأخيرة من الديموقرطية، دمج السودان في اقتصاد السوق. بينما يري (مركز الدراسات السودانية) في الديموقراطية وسيلة لتحقيق تنمية مستقلة ومنتجة وعادلة تفضي الي النهضة والوحدة الوطنية والسلام. ولأن العلاقة ندّية وقائمة علي الاحترام؛ فلا توجد شروط ولا حاجة للعمالة وبيع الضمير الوطني. ولكن السؤال المهم هو:توجد رأسمالية وطنية غير طفيلية، ومحسنون سودانيون، يوقفون الأموال لتمويل مجتمع مدني سوداني ويجنبونه الحاجة للتمويل الاجنبي؟
(نشر في اغسطس 2012 )