حبل الغسيل.. الفن دائمًا على حق

0 109
كتب: حامد الناظر
.
تابعت جدلًا كثيرًا خلال الأيام الفائتة بسبب أعمال درامية قُدمت على شاشات التلفزة السودانية أو وسائط الإنترنت في هذا الشهر المبارك. أغلب الجدل كان وما يزال منصبًا حول شخصية “المتدين” أو “إمام المسجد” التي قدمتها بعض تلك الأعمال الدرامية، وكيف أنها شوهتها وشوهت أدوارها، وذهب البعض إلى حد اعتبارها أعمالًا انتقامية من العهد البائد أو إيغالًا في “التنميط” لشخصية المتدين الشره، والمزواج، والفاسد وإلى ما هنالك من الأوصاف، وبالتالي ترسيخ ممنهج لهذه الصورة الكاريكاتورية للمتدينين كنوع من التجريد المسبق للأفق الذي تأخذنا إليه المرحلة الحالية.
لا أحتاج مشاهدة تلك الأعمال لبناء موقفي من هذه المسألة لأنه موقف مبدئي وبديهي ينطلق من أحقية الفنون في تقديم هذا النمط من الشخصيات حتى لو أغضبت من تمثلهم، فالفن أبدًا ينهض على مخالفة الواقع إلى أقصى حدود ممكنة وإلى المبالغة في تخيل كل شيء والسخرية منه لأنه فن ولأنه خيال، ولن يحقق المتعة طالما أنه يقدم الصورة المتوقعة ويتحرك في الهامش الآمن الذي لا يزعج المجتمع. لا بد للفن أن يزعج الجميع ويربكه ويغضبه أيضًا بأسئلته وجرأته ونزقه.
ليس من واجب الفن أن يقدم الشخصيات في صورتها المثالية، فيكون إمام المسجد طيبًا ويدعو إلى الخير، والطبيب منحازًا إلى الفقراء والغني مؤثرًا لغيره والشرطي حاميًا للضعفاء والأب قدوة والأم متفانية ومثالية! هذا ليس فنًا، هذه مثالية. الشخوص الخيرة في الفنون تتحرك في هوامش ضيقة، وغالبًا ما تكون ضعيفة في البداية وقليلة الحيلة لكن قوتها تنمو مع الحكاية، ومع وصول الشر الكثير الذي يحيط بها إلى ذروة قوته قبل أن يتهاوى بالتدريج، ولكي يكون الشر قويًا لا بد للشخوص التي تمثله أن تذهب في شرها وحماقاتها إلى أقصى حدود ممكنة، ولا يستثني ذلك إمامًا أو شيخًا أو طبيبًا أو جنديًا أو قسيسًا حتى لو غضبوا في الواقع من هذه الأدوار. مهمة الفن هي أن تحملهم على الغضب وعلى التساؤل.
فمثلما غضب المتدينون اليوم من هذه الأعمال ستغضب غدًا نقابة الأطباء إذا قدمت طبيبًا فاسدًا يتاجر في الأعضاء، وستغضب الشرطة وتدبج البيانات إذا قدمت شرطيًا مرتشيًا، وستغضب وزارة التعليم إذا قدمت مدرسًا يتحرش بالقاصرات ولن تنتهي الحكاية. سيغضبوا جميعًا في البداية ثم يتفهمون أدوار الفنون مع الوقت ويستسلمون لسلطتها في النهاية بشرط ألا ترضخ لابتزازهم وتجتهد في تمثل شروطها الفنية وتلتزم بها بصورة صارمة وهي ما يحصنها أيضًا من الغرضية والاستغلال من ناحية أخرى، هذا يحدث طبعًا لكنها قادرة على تحييده متى ما انحازت إلى شروطها الذاتية. الأصل في الفنون هي محاكاة الواقع في صراعه الأبدي بين الخبر والشر، وليس محاكاة الواقع في صورته المثالية الباردة.
وإن كان ثمة ما يستحق الفحص فهو ليس هذا، بل مدى قدرة هذه الأعمال على امتثالها للشروط الفنية في بناء هذه الشخوص، وتقاطعاتها مع الشخوص الأخرى ومنطقية الأحداث في تسلسلها وترابطها وسلاسة حركتها في الفضائين المكاني والزماني، فضلًا عن مهارتها في مزج العناصر الفنية الأخرى من صورة وحركة وصوت وإضاءة وتقديم عجينة درامية متماسكة في النهاية. عندها يمكننا إصدار الأحكام بأدوات العمل نفسه، هل كانت هذه الشخصية أو تلك مقنعة وواضحة الأبعاد أم لا؟ هل كان تسلسل الأحداث منطقيًا أم غير ذلك؟ هل كان العمل كله ممتعًا ومثيرًا للأسئلة المهمة أم لا؟ تحاكم الفنون من داخلها وبأدواتها وليس من بأدوات أو آراء من خارجها.
.
.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.