حول الاصلاح الامني والعسكري
كتب: محمد فاروق سليمان
.
لم يعد احد يتحدث كثيرا عن العقيدة القتالية منذ ان اخذت اطارا قانونيا واصبحت العسكرية هي العقيدة القتالية الحصرية وفق مفهوم احتكار الدولة للعنف وتوظيف تجارب الشعوب والمجموعات وخبراتها في قي بناء الجيوش بشكل مهني احترافي يضمن كفاءة هذه الجيوش وقدرتها على القيام بواجبها وفق القانون الوطني والقانون الدولي، واصبح تكامل ما يعرف بالقانون الدولي مع التشريعات الوطنية وتعريف المصالح المشروعة للشعوب والامم والاعتراف بالمخاطر والمهددات جزء من استراتيجيات الامن القومي للدول ووفق القاعدة البسيطة: الامن حق مكفول للجميع، طبعا ومع بساطة هذه المقولة وبديهيتها الا انها غير مبسوطة عمليا، بدرجة كاملة، والا لم نرى كثير من الصراعات تنفجر الان اقليميا ودوليا وداخليا أيضا.
ما يهم في فهم العسكرية نفسها كعقيدة قتالية هي تحول كثير من انماط القتال الى نمط خارج القانون، ويمكن النظر للتهديد الامني والمخاطر التي تنتج عن وجود عقيدة قتالية في الدولة خلاف العقيدة العسكرية، مثال الحرس الثوري في ايران، حزب الله في لبنان، قوات فاغنر في روسيا الاتحادية، كتهديد للعقيدة العسكرية بمفهوم قوى نظامية خاضعة للدولة وقوانينها ومساءلة وفق القانون الدولي، ووفق عقيدة قتالية تهدد القانون الدولي والوطني وستعمل على اخضاع الدولة مستقبلا، وكما حدث عندنا في السودان؛ الشكل الذي تطورت اليه ما عرف تاريخيا بالقوات “الصديقة” للقوات المسلحة السودانية، وهي ميلشيات ظلت تقوم بمهام قتالية بدعم الجيش ابان الحرب الاهلية الاطول في السودان قبل انقسامه الى بلدين في توظيف سيء للتنوع والانقسام الاثني في السودان. والتي تطورت (اي مفهوم القوات الصديقة) من مليشيات قبلية بسيطة الاعداد وتدريب محدود، في ظل افضلية قتالها في مناطق نفوذها الاثني والقبلي. الى قوات اكثر تعقيدا بعد انقلاب الثلاثين من يونيو ٨٩، وتحول الحرب الاهلية نفسها الى حملة سياسية للتجييش وفق دعاوى المشروع الحضاري. فتطورت قوات الدفاع الشعبي كقوات موازية واشبه باستنساخ التجربة الايرانية في تجييش الشعب وعسكرته، ليتواصل تطوير قوات موازية للجيش؛ حرس الحدود، الدعم السريع، وحتى قوات النجدة والعمليات التابعة لجهاز الامن والمخابرات الوطني كقوى قتالية متطورة، وفق مخاوف نظام الثلاثين من يونيو من ارث الجيش السوداني المؤسسي والذي يخضع لتقليد قديم وفق تاريخ وجوده وممتد، ظلت حتى القوة الوطنية الاكبر التي صارعته “الانانيا” انعكاس لنفس عقيدته العسكرية منذ تمرد فرقة جيش في توريت ١٩٥٥، واعتماد تطويرها وتدريبها على ضباط من نفس الجيش!
وان كان عصي علي الجيش السوداني الحفاظ على احتكاره للعنف في ظل طبيعة الصراع الوطني منذ نشأة الدولة الوطنية الحديثة بعد استقلالنا الاول، الا ان تفوقه نفسه في ظل سياسيات النظام السابق اصبح مهددا حتى كالقوة النظامية الاولى في الدولة “الرسمية”، وقد اشار دكتور جون قرنق الى اتفاق اهدافهم مع الجبهة الاسلامية في التسعينات كون الاثنين؛ اي الجبهة الاسلامية والحركة الشعبية، استهدفا الجيش السوداني!، بالتالي لم يعد هو الجيش القوي الذي يمكنه ان يحارب متفوقا الجيش الشعبي كما في السابق، رغم ان اغلب دعاوي انقلاب الثلاثين من يونيو كانت الانحياز للجيش واتهام الحكومة المدنية بإهماله، وقد ظلت حملات دعم القوات المسلحة من قبل الجبهة الاسلامية، ومواقفها من احلال السلام والتظاهرات ضد اتفاقية المرغني-قرنق في اواخر ٨٨، والغريب ان الحركة المدنية الوحيدة التي شاركت الجبهة الاسلامية شغفها بالجيش ومؤازرته من خلال نفس الطريقة الدعائية كانت حزب البعث العربي، والذي منذ حادثة القردود بعد الانتفاضة لم يكن يعتقد بامكانية الوصول الى السلام مع الحركة الشعبية، ناهيك عن كونه ووفق توجهاته الايدولوجية لم يكن مستعدا ابدا لتفهم منطلقات الصراع الذي تخوضه الحركة الشعبية نفسه، او قبول الواقع السوداني في ظل نمو الوعي بالهوية السودانية بعيدا عن احادية الوعي بهذه الهوية عند نخب المركز بعد خروج المستعمر!!
من المهم الوعي بالتجريف للعقيدة العسكرية الذي تم طوال ثلاثين عام من حكم الانقاذ في اي عملية اصلاح امني عسكري ومؤسسي مستقبلا، ومن المهم الانحياز بشكل واضح لعقيدة عسكرية تخضع لسيادة القانون وتعمل وفق التزام اخلاقي بالدستور والحق الانساني الاصيل في الحياة، الامر الذي لم يكن غالبا قبل الثلاثين عاما اصلا وفق ميراث الصراع السياسي الوطني، والذي شكلت النزاعات الداخلية والصراع حول السلطة خطر ومهدد امني، تم استهلاك جيشنا في مواجهته، حتى اصبح هو، أي الجيش، نفسه لاعبا سياسيا رئيسا في الازمة الوطنية “الشاملة”، ومن نافلة القول قبل الحديث عن ابعاد الجيش عن السياسية والصراع السياسي، ابتعاد الصراع السياسي والسياسة عنه، وهو ما تتيحه سلمية الثورة السودانية مؤخرا كعقيدة للصراع السياسي وتطور اجتماعنا السياسي بعيدا عن طموحات النخب الحالية في توظيف الجيش وقواه الصديقة في صراع تاكيد امتيازاتها، وفق نمط لم يعد ممكنا الا من خلال تاكيد الاشتباك وتهديد وجود الدولة نفسها.