الذكرى 139 لفتح المهدي للخرطوم: التاريخ وشخير التاريخ (1-2)

0 141

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

كان يوم الـ 26 من يناير2023 الذكرى الـ 39 بعد الـ 100 لفتح محمد أحمد المهدي للخرطوم عام 1885 وتأسيس الدولة المهدية من فوق أنقاض دولة الحكم التركي المصري (1821-1885).
لم تمر هذه الذكرى هذه المرة كتاريخ كعهدنا بها ننوه بها محتفيين بها كمأثرة وطنية وسابقة في بناء الدولة السودانية المستقلة، ويخرج فيها المرحوم السيد الصادق المهدي، حفيد المهدي ووارث إمامته على أنصاره وزعيم حزب الأمة، ليجدد عزائم الأمة في يوم نصر تاريخي لها.
زكى الإمام الراحل فتح الخرطوم في آخر احتفالاته به قبل رحيله في الـ 26 من نوفمبر 2020 ناظراً لثورة ديسمبر 2019 كصنيع جميل للمهدية التي استنهضت همم السودانيين للحرية، ولا سبيل في قوله لفهم النزعة الثورية السودانية من دونها.
مرت هذه الذكرى لفتح الخرطوم في يومنا والمدينة في براثن واقع حرب لاحتلالها. فاختلط تاريخ فتح الخرطوم بواسطة المهدي بواقع الصراع حولها ليومنا بين القوات المسلحة و”الدعم السريع”. فتبنّى طرف “الدعم السريع” الفتح كسابقة لإهلاك “دولة 56” في السودان والتي رغب في وراثتها “كقرية بطرت معيشتها”، وهي الآية التي تلاها المهدي نفسه في أول خطبة جمعة له بعد نصره على الحكومة التركية.
أما طرف القوات المسلحة فاسترجع في الذكرى، وقد رأى خراب المدينة على يد “الدعم السريع”، ما أذيع عن الدمار الذي لحق بالخرطوم خلال فتح المهدي لها. فضرست ذكرى الفتح نشر مادة معربة في المواقع عن “أوتاقو ديلي” النيوزيلندية (19 يناير 1899) شديدة الخصومة للخليفة عبدالله، القائم على أمر السودان يومها. فذكرت من فظائعه مثل قتل 15 ألف من سكان الخرطوم عند الفتح، وبطش بطشاً لم يرحم معه الدبلوماسيين ولا رجال الدين، فبتر يد القنصل الإغريقي وقطع جسده إرباً بالسواطير ورمى بأجزاء جسده على قارعة الطريق. كما علق راهبة أسترالية من معصميها على عارضة مرتفعة وجلدها بعصا سميكة على باطن قدميها وقلع أظافرها من قدميها.
وجاء في عنوان هذه المادة في الوسائط “ما أشبه الليلة بالبارحة”، أي أن فتح الخرطوم بيد المهدي مطابق لغزوها على يد الـ “جنجويد” حذو النعل بالنعل. ونقول عرضاً إنه من رأي الكاتب أن الخليفة انطوى على نازع إجرام وسفك دماء أخفاه عن المهدي بحياته إلى حد ما، ثم أسفر هولاً وجوراً لما خلا له الجو بموت المهدي. ولا يعرف المرء كيف نجح الخليفة في قتل 15 ألف شخص في فتح الخرطوم والمهدي، الذي أخفى الخليفة القادم عنه فظاظة نفسه، واقف على الأمر. وصح السؤال ما هو “الحد ما” الذي انخدع به المهدي عن طوية خليفته متى وقف خليفته عنده ولم يفحش. المؤكد أن هذا “الحد ما” ليس عند قتل هذا العدد المرموق من سكان المدينة البالغ عددهم 50 ألفاً.

وستكون العبارة الأخيرة أعلاه المدخل إلى نقد الكتابات البريطانية والأوروبية عن المهدية التي قبلنا بسلطانها المعرفي بغض النظر عن حقائقها واستنصرنا بها في خصوماتنا السياسة. وهي كتابات خرجت من مصنع تعبئة الرأي العام البريطاني للحماسة لفكرة “استعادة السودان”، وهي العبارة في صيغتها التاريخية والمقصود استعادته للخديوية المصرية، التي كانت وجدت معارضة مستقيمة من وليام قلادستون رئيس الوزراء بذاته. وصبت تلك التعبئة جام نيرانها على الخليفة عبدالله ودولته لتدخل في روع البريطانيين نبل مهمة استنقاذ السودانيين من مستبد شرقي كما يقال. وتولت كبر ذلك الأرزاء بدولة المهدية إدارة الاستخبارات بالجيش المصري التي كان عليها ريقنالد ونجت باشا الذي صار حاكماً عاماً على السودان بعد استعادته. وكانت أبرز إسهاماته في باب هذه التعبئة تحريره كتابات ردولف سلاطين، حاكم دارفور في الدولة التركية في السودان، والقس جوزيف أهروالدر ممن هربوا من محبسهم في أم درمان وكتبوا كشاهدي عيان في الألمانية عن استبداد الخليفة عبدالله وشروره. وزاد كتاباتهما ضغثاً على إبالة تحرير ونجت للكتابين في الإنجليزية كما سيرد.
وكانت تلك التعبئة للإمبراطورية في بريطانيا عامة. وتناولها بسداد الأكاديمي البريطاني جون مكنزي في كتابه “الدعاية والإمبراطورية: استغلال الرأي العام البريطاني، (1880-1960)” الصادر عام (1984)، فلم تكن الحكومة البريطانية، في قوله، طرفاً كبيراً في هذه الدعاية المحرضة لبناء الإمبراطورية البريطانية، ولكن تكفلت بها في آخر القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20 وكالات دعائية تجارية سرّبت دعوتها إلى المجتمع في دوائر التعليم والجيش والكنائس وعامة الناس الذين توسلت لهم بالعروض المسرحية والترفيهية والمعارض، وسمّى مكنزي تعبئة عامة الناس لدعم بناء الإمبراطورية بـ “الإمبريالية الشعبية”.
ومن المستغرب خضوع صفوتنا للمعارف التي تلقتها عن أدب الدعاية الإمبريالية عن المهدية لا تزيد على إعادة إنتاجه كما رأينا في حين كان من انتقد هذا الأدب هو من أسس للتأرخة المهنية للمهدية. وهو الأكاديمي الإنجليزي ب م هولت الذي استأجرته الإدارة البريطانية خلال الخمسينيات لفهرسة وثائق الدولة المهدية التي كانت توافرت على جمعها بدأب خلال استعادة السودان وحفظتها طوال تلك الأعوام.
ونواصل

 

ونجت باشا والأمير محمود ود أحمد رحمه الله

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.